سياسة التصنت: تجاوزٌ للحريات الفردية في اطار الحرب الامريكية على الارهاب؟
يثير التجاذب بين "الحرب ضد الارهاب" وحماية الحريات الفردية جدلا محتدما في الولايات المتحدة على ضوء ما كشفته النقاشات الحادة الجارية حول عمليات التصنت والتعذيب وتمديد قانون الامن الوطني المعروف بـِ (باتريوت آكت) والسجون السرية لوكالة الاستخبارات المركزية (سي اي ايه). وفي هذا الإطار أعرب بعض المراقبين عن دهشته لأن أن هذا الجدل لم يبدأ منذ فترة طويلة، لا سيما وأن هناك الكثير من المعلومات التي أشارت الى ممارسات استخبارية أمريكية مخالفة لحقوق الانسان، ليس أقلها احتجاز متهمين في معتقلات دون تهمة رسمية أو محاكمة. لكن ديفيد روثكوبف، الخبير في معهد كارنيغي للسلام الدولي، يجد تفسيرا لذلك بقوله "لم يكن من الممكن التوصل الى توازن خلال السنوات الاربع التي تلت يوم 11 ايلول/ سبتمبر لان الوضع برمته كان محكوما بالعواطف والمشاعرأكثر بكثير من المنطق." ويرى الخبير ان هذا النقاش يمكن ان يبدأ اليوم "لان الاذهان باتت مستعدة له"، لكنه حذر في الوقت نفسه من انعكاس سلبي يضعف عملية مكافحة الارهاب. وقال "يجب الا نمضي بعيدا جدا في اي من الاتجاهين لان ذلك سيضعفنا او سيعرض قيمنا الاساسية للخطر." كما توقع روثكوبف ان يستمر الجدل حول تحقيق توازن بين الامن والحريات الفردية "سنوات" ويندرج في صلب انتخابات الكونغرس عام 2006 والانتخابات الرئاسية عام 2008.
مسؤولية الادارة الامريكية
حوادث التصنت التي كشفت عنها صحيفة نيويورك تايمز في الاسبوع الماضي وضعت الادارة الامريكية وعلى رأسها الرئيس بوش في وضع قانوني حرج. وقد ادت هذه التجاوزات الى دعوة أعضاء في لجنة المخابرات التابعة لمجلس الشيوخ الامريكي الى فتح تحقيق فوري من أجل فحص حيثياته. ومن بين هؤلاء أعضاء في الحزب الجمهوري الذي ينتمي اليه بوش نفسه. وبرنامج التصنت هو الاحدث في سلسلة من سياسات الادارة الامريكية في اطار حرب بوش على الارهاب والتي أثارت أسئلة بشأن ما اذا جرى تجاوز للحد الفاصل بين محاربة الارهاب وحماية الحقوق المدنية. وفي سياق حملة الدفاع عن ممارسات الادارة، قال بوش وتشيني ومسؤولون كبار آخرون بأن عمليات التصنت تهدف الى حماية الامريكيين من العمليات الارهابية، مشيرين الى أن برنامج التصنت "ضيق النطاق وأن زعماء في الكونجرس أطلعوا بشكل مناسب على معلومات أساسية بشأنه"، في محاولة على ما يبدو للتهوين من شأن آثار ذلك على الحريات المدنية.
عودة الى القوانين السابقة
القوانين الامريكية لمكافحة الارهاب، والتي تم التصديق عليها بعد عمليات 11 سبتمبر/ أيلول الارهابية، تعطي الرئيس سلطات استثنائية للقيام باجراءات ضد دول أو أشخاص أو مؤسسات تعمل على تهديد أمن الولايات المتحدة الامريكية. هذه القوانين تم اعتمادها كأساس قانوني لشن حرب على حركة طالبان الافغانية واسقاطها، وهي القوانين نفسها التي اعتمدتها الادارة في عمليات التصنت على مواطنين أمريكيين. في الحالة الاولى لم يختلف المشرعون الامريكيون في الامر، فاقتلاع حركة طالبان لاقى موافقة شعبية عارمة ودعما كاملا من الحزب الديمقراطي المعارض. أما في الحالة الثانية فقد برزت أصوات معارضة، من داخل المؤسسة التشريعية الامريكية، وفي أوساط المجتمع الامريكي أيضا. البرفسور فريد هيتس، استاذ القانون في جامعة فيرجينيا وموظف سابق في CIA قال: "السلطات الاستثنائية الممنوحة للرئيس تستمد شرعيتها من وضع لا يعرف فيه المرء ماذا ينتظره من أهوال، ولكن بعد مرور سنوات لم تحدث فيها والحمد لله عمليات بحجم تلك التي حدثت في 2001، لا بد من العودة الى الممارسات القانونية التي كانت سائدة قبل ذلك."
وبالرغم من كل السلطات الاستثنائية الممنوحة للرئيس، تفرض القوانين الامريكية على السلطة التنفيذية ضرورة الحصول على أمر قضائي من محكمة سرية خاصة عندما يتعلق الامر بالتصنت على مواطنين أمريكيين. ويجب على السلطات ان تبرر طلبها جيدا حتى يتم الموافقة عليه. ولكن كل هذا تم تجاوزه في عمليات التصنت الاخيرة. ومن هنا يتوجب طرح السؤال: هل يعتبر الرئيس الامريكي نفسه فوق القانون في اطار الحرب على الارهاب؟ جورج بوش يجيب على ذلك بالنفي ويقول: "بدءا أود أن اشير الى ان السياسيين يجب أن يحلفوا اليمين على احترام القانون، كما أن هناك رقابة مباشرة ودائمة من قبل الكونجرس على ذلك، ونحن على اتصال دائم معه بهذا الخصوص."
تجاوزات في المانيا أيضا
قضية التصنت يبدو أنها غير مقتصرة على الولايات المتحدة، وانما تجاوزتها الى دول اخرى. فقد وردت أنباء مؤخرا عن قيام أجهزة المخابرات الالمانية بالتصنت على صحفيين، الامر الذي نفته الجهات الرسمية. الا ان التجاوز الاخطر للقوانين الالمانية تمثل في علم الحكومة السابقة بمسألة اختطاف المواطن الالماني من أصل لبناني خالد المصري على أيدي المخابرات الامريكية لمدة خمسة أشهر دون تهمة، وذلك حسب تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست الامريكية. وقد ألقى هذا الحادث تساؤلات غاية في الاهمية حول مسؤولية الدولة تجاة مواطنيها بغض النظر عن أصولهم، لا سيما أن الدستور الالماني يحفظ لكل مواطن حقه في حياة كريمة ويمنع المساس بكرامته. وان صدق ما نشرته الصحيفة، فان تصرف وزير الداخلية السابق يعد انتهاكا صارخا للدستور الالماني. احدى الصحف الالمانية علقت على الامر بالقول: "لا يستطيع المرء مقاومة الانطباع بأن الحكومة الألمانية تعتم على القضية بدلا من تسليط الضوء عليها وتقديم الايضاحات. حقيقة واحدة تظهر بجلاء، وهي أن من يطالب بايضاحات شاملة، يعرض نفسه الى سخط الادارة الأمريكية، وهذا بالضبط ما تود المستشارة ميركل تجنبه، فهي تركز في سياستها الخارجية على تنقية العلاقات مع واشنطن من كل الشوائب، على أن هذا لا يجب أن يكون على حساب الشفافية الضرورية في قضية خالد المصري."
وختاماً يمكن القول أن حكومة الرئيس بوش قامت بتطبيق العديد من " الاستثناءات" في اطار حربها على الارهاب. فمن معتقل غونتانمو الى تسليم مطلوبين الى دول ديكتاتورية لتعذيبهم والحصول على معلومات منهم، هذه الامور لم تثر جدلا كبيرا في الولايات المتحدة. أما مسألة التصنت على أمريكيين داخل البلاد، فهي مسألة قد تأخذ بعدا آخر.
دويتشه فيله + وكالات