صاحب رؤية سياسية أم داعية حرب؟ هنري كيسنجر يدخل قرنه الثاني
٢٦ مايو ٢٠٢٣في أوائل السبعينيات، زار هنري كيسنجر قصر فرساي بالقرب من باريس، وعندما سأله الصحفيون عما كان عليه الحال عندما خرج من قاعة المرايا المهيبة بداخل القصر، أجاب بأن الأمر كان "رائعا، لأنه محاط بالعبقرية".
لكن ورغم كل هذه الأعوام، لا يزال سجل "الثعلب العجوز" الحافل جدا يثير الجدل. إذ يعتبره كثيرون دبلوماسيا عبقريا يتقن حتى يومنا هذا فن ما يمكن تحقيقه بالسياسة بشكل لا مثيل له، فيما يصفه منتقدوه بأنه مجرم حرب، بيد أن الغالبية تعتبره يقف على مسافة واحدة من الأمرين.
كيسنجر في عامه المئة.. المستقبل وليس الماضي
ويعد تاريخ كيسنجر السياسي حافلا جدا، اذ عمل في البداية كمستشار للسياسة الخارجية بين عامي 1969 و 1973 ولاحقا كوزير خارجية للرئيس ريتشارد نيكسون وخليفته جيرالد فورد بين عامي 1973 و 1977.
وقد ساهم في إنهاء حرب فيتنام وتدشين مرحلة الانفراج ونزع فتيل التوتر بينالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي سابقا، وإطلاق زخم العلاقات الأمريكية مع الصين. لكنه انخرط في الإطاحة بزعماء منتخبين ديمقراطيا وإعادة رسم حدود دول أخرى.
وبعد مغادرته منصبه، ظل على مدى العقود الأربعة الماضية حاضرا على الساحة حيث يقدم "استشارات جيوسياسية" لعشرات من الزعماء والقادة والحكومات في مختلف أنحاء العالم دون الكشف عن أسمائهم، وذلك من خلال شركته الاستشارية "كيسنجر أسوشيتس".
ورغم تقدمه في السن، لا يزال يُنظر إلى هنري كيسنجر ، الطفل المولود لأسرة يهودية كانت تعيش في منطقة بافاريا، جنوب ألمانيا وكان اسمه آنذاك هاينتس، باعتباره شخصية ذات نفوذ وثقل في السياسة الدولية حيث يدلي بآرائه حول القضايا الجيوسياسية.
وفي عامه المئة، شارك هنري كيسنجر للتو في توقيع خطاب يحذر من مخاطر الذكاء الاصطناعي على العالم، حيث وضع هذه الثورة التكنولوجية في نفس الخطر الذي تمثله الأسلحة النووية.
الغاية تبرر الوسيلة
وفيما يتعلق بالحرب الروسية في أوكرانيا، تسببت تصريحات أدلى بها كيسنجر، الذي اعتبر مهندس سياسة الانفتاح بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة إبان الحرب الباردة، الخريف الماضي في ضجة بعد دعوته إلى السعي لتحقيق سلام تفاوضي. وقد تزامنت هذه التصريحات مع بدء حلفاء أوكرانيا من الدول الغربية في زيادة مساعداتها العسكرية إلى كييف بشكل غير مسبوق.
إذ جادل كيسنجر بأن المحادثات ضرورية لتجنب خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة ستكون "مدمرة"، وهو الأمر الذي أثار انتقادات ضده من أوكرانيا التي اتهمته بمحاولة "استرضاء المعتدي". وفي رده، قال كين ليبيرثال، العضو السابق في مجلس الأمن القومي والذي عمل مع كيسنجر في السابق على مدى العقود الماضية، إن كيسنجر يمتلك "رؤية واضحة حيال ما يجب القيام به... وكيفية الانتقال من مرحلة إلى أخرى"، مشيرا إلى أن تفكير كيسنجر يتطلب "تقييما عقلانيا بعيدا عن العاطفة، وهو يمثل الغاية تبرر الوسيلة".
ولم ينزعج كيسنجر من الانتقادات الأوكرانية، فيما يتعلق بالتعامل مع روسيا. فرغم أنه كان العقل المدبر لسياسة الانفراج الأمريكية تجاه الاتحاد السوفيتي في سبعينيات القرن الماضي، إلا أنه كان على حافة مواجهة صراع مع روسيا.
وفي وقت لاحق، وصف كيسنجر سياسة الانفراج بأنها كانت "استراتيجية لإدارة الصراع مع الاتحاد السوفيتي" وقد وفرت لكلا الجانبين الوقت للدبلوماسية وتجنب الدخول في صراعات جديدة.
ومؤخرا، أبدى كيسنجر دعمه لانضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد أن أدرك أن "فكرة حياد أوكرانيا في هذه الظروف لم تعد ذات مغزى".
ويرى منتقدوه أن رغبة الثعلب العجوز في أن تتصدر مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان ليست قضية ذات أهمية قصوى لديه، إذ أنها لا تعدو أن تكون عنصرا في سياسته وهو الأمر الذي دفع جمعيات حقوقية في مختلف أنحاء العالم إلى انتقاده بمجرد سماع اسمه. وفي هذا السياق، قال السناتور الأمريكي ذو التوجه اليساري بيرني ساندرز إنه "فخور بالقول إن هنري كيسنجر ليس صديقه"، واصفا إياه بكونه "أكثر وزير خارجية تدميرا في التاريخ الحديث" بسبب سياساته في آسيا في سبعينيات القرن الماضي.
سياسة حبل المشدود
وصف كيسنجر مواقفه المثيرة للجدل بأنها تمثل القيادة الإستراتيجية، التي هي عبارة عن السير على حبل مشدود أي ما بين "اليقين النسبي للماضي وغموض المستقبل".
وقد كتب كيسنجر بإسهاب عن طريقه اتخاذه القرار السياسي، لكنه أخفى عن الأمريكيين في البداية حملة القصف السرية التي قامت بها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون حيث كان وزير خارجيته، ضد كمبوديا والتي أدت في نهاية المطاف إلى صعود منظمة " الخمير الحمر" التي قتلت قرابة مليوني شخص.
وكان يأمل كيسنجر في محاولة تأمين نهاية حرب فيتنام من خلال اتفاقية سلام، ما منحه والمفاوض الرئيسي عن الجانب الفيتنامي الشمالي لي دك ثو جائزة نوبل للسلام لعام 1973، لكن لي دك ثو رفض استلامها بسبب الحرب في بلاده آنذاك.
وسعى كيسنجر لاحقا إلى إعادة الجائزة بعد فشل وقف إطلاق النار على وقع "عملية سقوط سايغون" التي تشير إلى استيلاء القوات الشيوعية للجيش الشعبي الفيتنامي على مدينة سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية. وقال منتقدوه إن قراراته التي اتخذها على طول هذا المسار أودت بحياة الكثيرين في فيتنام وكمبوديا ولاوس.
وعندما يتحدث هنري كيسنجر علنا، فإنه يبدو أكثر دراية وغير خائف من العواقب الوخيمة لقيادته الدبلوماسية الأمريكية. حيث كشفت وثائق الأرشيف الوطني الأمريكي التي نشرت بعد 40 عاما، أن كيسنجر ضغط على الرئيس نيكسون للإطاحة برئيس تشلي المنتخب ديمقراطيا سلفادور أليندي عام 1973 لأنه شعر أن "تأثيره النموذجي يمكن أن يضر" بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. وقد ساعد كيسنجر بشكل فعال في صعود الدكتاتور التشيلي أوغستو بينوشيه الذي تورطت حكومته في قتل وتعذيب الآلاف.
الصين
وفي تعليقه، قال كين ليبيرثال إن كيسنجر "كان يفكر دائما في تحقيق نوع من التوازن بين القوى حيث كانت حساباته مرهونة بأن هيمنة أي دولة ستؤدي إلى بذل أخرين بعض الجهود".
وفي محاولة لتجنب إثارة ردود فعل متسلسلة قد تزعزع الاستقرار على الساحة الدولية، سعى كيسنجر إلى دفع الرئيس نيكسون إلى إعادة العلاقات مع الصين في عام 1972 بما حمل في طياته اعترافا أمريكيا بأن "تايوان جزء من الصين". وتمثل التوترات الحالية بين تايوان والصين وسط مخاوف من اندلاع حرب، امتدادا لأسلوب كيسنجر في قيادة السياسة الخارجية الأمريكية "على حبل مشدود" منذ السبعينيات وحتى الوقت الحالي.
ورغم ذلك، يمكن لكيسنجر القول بأنه تنبأ لمسار الصين إلى أن تصبح قوة عالمية قبل عقود من تنبأ خلفائه في منصب وزير الخارجية هذا التوجه الصيني.
جذور ألمانية
بينما يحتفل كيسنجر بعيد ميلاده المائة يوم السبت (27 مايو/ أيار)، سيستمر السياسيون والخبراء في جميع أنحاء العالم في مناقشة تأثير السياسي والدبلوماسي المخضرم الأكثر نفوذا في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية والذي لا يزال يتحدث الإنجليزية بلكنة تكشف عن جذوره الألمانية.
ميشائيلا كوبفنر / م.ع