علاء الأسواني: "آكاكي" في مصر يتعلم الدرس
٢٨ يوليو ٢٠٢٠"آكاكي آكاكيفيتش" إنسان بسيط عاش في روسيا في القرن التاسع عشر. كان يعمل في مصلحة حكومية بمرتب ضئيل وكانت كل مهمته أن ينسخ الأوراق الحكومية بخطه الجميل. كان عالم آكاكي محدودا للغاية فهو ينسخ الأوراق طوال النهار ويعود إلى بيته ليأكل وينام ثم يذهب في الصباح إلى العمل ليستأنف نسخ الأوراق. كان مسالما يتحاشى أي نوع من الصدام حتى عندما يسخر منه زملاؤه في المصلحة لم يكن يدافع عن نفسه وإنما فقط يسألهم " لماذا تريدون إهانتي؟".
اكتشف آكاكي ذات يوم أن معطفه القديم قد تهرأ وتمزق في أكثر من موضع فذهب إلى الخياط ورجاه أن يرتق له المعطف لكن الخياط أكد له أن المعطف لم يعد يصلح وأنه يحتاج إلى معطف جديد. لم يكن آكاكي يستطيع أن يمشي بدون معطف في برد روسيا القارس ولذلك اجتهد وحرم نفسه من احتياجاته الأساسية حتى يوفر تكاليف المعطف الجديد. يوم أن ارتدى آكاكي معطفه الجديد بدا أنيقا وسعيدا وواثقا من نفسه لدرجة أن زملاءه الذين طالما سخروا منه فرحوا بمظهره الجديد ودعوه إلى حفلة أقاموها خصيصا للاحتفال به.
ذهب آكاكي إلى الحفلة وقضى وقتا سعيدا وفي طريقه إلى منزله برز له بعض اللصوص وأرغموه على خلع المعطف وسرقوه منه عنوة. أُصيب آكاكي بصدمة هائلة وهو يرى معطفه الجديد يختفي أمام عينيه. أبلغ أكاكي رجال الشرطة فلم يفعلوا شيئا لمساعدته بل انهم اشتبهوا فيه نتيجة لمظهره الرث. ذهب أكاكي إلى مسئول رفيع يشكو له الظلم فعامله باحتقار وتجاهله. عندئذ سقط آكاكي مريضا ولم يلبث أن مات من فرط القهر .بعد أيام بدأت روح آكاكي تطوف في طرقات المدينة وتخطف المعاطف من المارة.
كان هذا ملخص قصة المعطف من تأليف الأديب الروسي الكبير نيكولاى غوغول. نُشرت قصة المعطف عام 1842 فاحتلت فورا مكانة رفيعة في الأدب الروسي والعالمي وقد تركت هذه القصة تأثيرا هائلا على الأدب الروسي لدرجة أن الروائي العظيم فيودور ديستويفسكي قال مرة:
(نحن الأدباء الروس) خرجنا جميعا من معطف غوغول.
عندما صدرت قصة المعطف كانت روسيا تشهد صراعا عنيفا بين الثوريين الذين يطالبون بالعدل والحرية ويريدون تطبيق الأفكار الجديدة المستلهمة من الثورة الفرنسية، بالمقابل كان هناك المحافظون أنصار النظام القديم الذين يدافعون عن الأوضاع الظالمة ويساندون السلطة القائمة آنذاك على التحالف بين القيصر والكنيسة. بين الثوريين والمحافظين كان هناك ملايين الروس يمثلون نموذج "آكاكي آكاكيفيتش" الذي يعيش في قوقعته و لا يعبأ إطلاقا بالشئون العامة وهو يتعايش مع الاستبداد ويتقبل الظلم مادام يحدث للآخرين.
يبين لنا غوغول في قصة المعطف أن أحدا لن ينجو من الظلم في دولة ظالمة. مهما انعزل الإنسان وتفرغ لشئونه الشخصية فان الدولة الظالمة سوف تؤذيه إن لم يكن اليوم فغدا.. هاهو أكاكي المسالم المنعزل في قوقعته يتعرض للظلم ويفقد معطفه الفاخر وعندئذ لا تسعفه الدولة بل تساهم في ظلمه. لدينا في مصر نموذج طبق الأصل من آكاكي آكاكيفيتش أسميه "المواطن المستقر" الذي يفضل الاستقرار على العدل والحرية. مصريون كثيرون ينتمون إلى فئة "المواطن المستقر" الذي لا يهمه أي شيء في العالم إلا أكل العيش وتربية عياله وهو على أتم استعداد لتجاهل الظلم (بل وربما أيده وصفق له) مادام المظلومون بعيدين عنه وعن أسرته.
هذا المواطن المستقر رأى الديكتاتور السيسي وهو يعبث بالدستور ليظل في الحكم إلى الأبد ورآه وهو يضع عشرات الألوف من المصريين في المعتقلات ورأى السيسي وهو يتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين للسعودية ورآه يتقاعس عن واجبه في التعامل مع أثيوبيا ويضيع حق مصر في مياه النيل.
كل ذلك رآه المواطن المستقر فلم يهتم وكتم شهادة الحق بل انه أقنع نفسه بالأكاذيب التي يرددها إعلام المخابرات في مصر. كان المواطن المستقر يعتقد أنه سيظل بمأمن من بطش السيسي مادام لا يعلن معارضته للنظام. لكن المواطن المستقر، تماما مثل آكاكي، فوجئ بالظلم يقع عليه أيضا. بدأ الأمر بالغلاء الفاحش الذي جعل حياة الفقراء مستحيلة ثم راح نظام السيسي يبحث عن أي ذريعة ويفرض الإتاوات على الناس وأخيرا أعلن النظام عن سياسة ظالمة للتعامل مع المباني التي أنشئت على أراض حكومية. آلاف الشقق التي اشتراها المواطنون بعقود صحيحة وعاشوا فيها سنوات طويلة يشاهدون الآن تدميرها أمام أعينهم ويتم إرغامهم على قبول شقق بديلة في مناطق نائية أصغر بكثير من شققهم وإذا رفضوا هذا الظلم يتم القبض عليهم وإحالتهم للقضاء العسكري كما حدث مع الصيادين في الإسكندرية.
لقد وصلت استهانة النظام بحقوق الناس لدرجة هدم القبور على رفات الموتى بدون إنذار من أجل شق طريق. إن المصريين من عينة المواطن المستقر يتعلمون الآن نفس الدرس الذي تعلمه آكاكي آكاكيفيتش منذ 180 عاماً: إذا كنا نعيش في دولة ظالمة فلن يفلت أحد من الظلم. إن الطريقة الوحيدة لحمايتنا من الظلم ليست الانسحاب والسكوت، وإنما أن نقاوم الظلم منذ البداية حتى ولو لم يصبنا وأصاب الآخرين. إن دفاعنا عن حقوقنا يجب أن يتأسس على المبدأ وليس مصالحنا الشخصية.
إذا اتحد المصريون في مواجهة الديكتاتور سوف ينتزعون حقوقهم مرة واحدة إلى الأبد.
الديمقراطية هي الحل
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.