علاء الأسواني: اسلمي يا مصر
٣٠ يونيو ٢٠٢٠كان أبي المرحوم عباس الأسواني أديبا مرموقا ومحاميا ومناضلا اشتراكيا تم اعتقاله مرات عديدة لاشتراكه في الكفاح ضد الاستعمار البريطاني وعندما استولى العسكريون على حكم مصر عام 1952 كان أبي معارضا للنظام الناصري بسبب الاستبداد والقمع. كنت طفلا عندما نشبت الحرب بين مصر واسرائيل في يونيو 1967 وفوجئت بوالدي يتابع بحماس أنباء القتال على الجبهة ثم قال لي:
- ان شاء الله ستنتصر مصر
سألته:
- ألست ضد عبد الناصر؟
قال أبي:
- معارضتي لعبد الناصر شيء ومساندتي لمصر في الحرب شيء آخر
كان هذا درسا تعلمته مبكرا وأنا أتذكره هذه الأيام. أنا أعارض نظام السيسي لكنني أساند مصر في معركتها ضد أثيوبيا التي أقامت سد النهضة الذي سيمنع النيل عن مصر. ان مصر تمر الآن بأصعب أزمة تعرضت لها منذ حرب 1967 لأن ملء سد النهضة بالمياه بدون مراعاة حقوق مصر المائية سيؤدي إلى فقدان مصر لجزء كبير من أراضيها المزروعة وتشريد ملايين الفلاحين المصريين بالاضافة إلى الإضرار البالغ بالكهرباء التي ينتجها السد العالي في مصر. هنا يجب أن نفهم الحقائق الآتية:
أولا: يؤكد الخبراء أن كل ما ستجنيه أثيوبيا من سد النهضة كان الحصول عليه ممكنا بدون الاعتداء على حقوق مصر التي يعتبر النيل بالنسبة إليها شريان الحياة الوحيد لأنها تعتمد عليه تماما في الزراعة بينما تعتمد أثيوبيا على مياه الأمطار. أضف إلى ذلك وجود أنهار عديدة أخرى في أثيوبيا ووسائل أخرى لتوليد الكهرباء بكميات أكبر بكثير من التي سيوفرها سد النهضة. كل هذه الحقائق تؤكد أن سد النهضة مشروع سياسي في المقام الأول والهدف منه وضع مصر تحت السيطرة الكاملة للقوى الكبرى التي تقف خلف بناء السد.
ثانيا: المسؤول الأول عن هذه الأزمة هو عبد الفتاح السيسي الذي كان في السلطة منذ بداية بناء سد النهضة عام 2011 وحتى الآن. كان السيسي رئيسا للمخابرات الحربية ثم وزيرا للدفاع ثم رئيسا للجمهورية، وهو في كل هذه المناصب قصّر في أداء واجبه وأساء التصرف في ملف سد النهضة حتى أوصلنا إلى الأزمة الحالية.
ان المؤرخين وهم يسجلون الفترة التي نعيشها سيندهشون قطعا من مدى الخفة التي تعامل بها السيسي مع هذه الأزمة، فقد وقع اتفاق مبادئ مع أثيوبيا عام 2015 بدون تحديد الشروط الواجبة لحماية الحقوق المصرية الأمر الذي منح أثيوبيا ما لم تكن تحلم به: موافقة رسمية على بناء السد من مصر (أكثر الدول تضررا منه)، بعد ذلك كان واضحا أن أثيوبيا تراوغ وتناور من أجل كسب الوقت والانتهاء من بناء السد ليكون أمرا واقعا، لكن السيسي لم يفهم ذلك وتم استدراجه إلى جولات لا تنتهي من التفاوض العقيم حتى انتهت أثيوبيا من بناء السد.
فاذا أضفنا إلى كل ذلك المشهد العبثي الذي صنعه السيسي عندما طلب من رئيس وزراء أثيوبيا (وهو مسيحي لا يتكلم العربية) أن يقسم بالله العظيم انه لن يأخذ حصة المياه من مصر.. وطبعا أقسم المسؤول الأثيوبي وهو مستغرق في الضحك من سذاجة المشهد وعبثيته. المؤسف أن السيسي مثل كل ديكتاتور كان يطمئن المصريين انه يحافظ على حقوقهم وانه ليس في الامكان أبدع مما كان حتى أفقنا على الكارثة ورأينا الحكومة المصرية تتوسل إلى أثيوبيا حتى تؤجل ملء السد ولو لبضعة أسابيع وأثيوبيا ترفض.
ثالثا: هذا الأداء الفاشل البائس لعبد الفتاح السيسي صاحبته حملة من الدعاية (البروباغندا) صورت الفشل على انه نجاح عظيم وظلت تخدر عقول المصريين بالأكاذيب عن انجازات السيسي وقدرته على مشكلة سد النهضة ولقد عاش المصريون في هذه الأكاذيب حتى أفاقوا على الكارثة تماما كما حدث في عام 1967 عندما أقنعتنا البروباغندا الناصرية اننا أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط وأننا سنلقى بإسرائيل في البحر ثم أفقنا على أسوأ هزيمة في تاريخ مصر.
رابعا: مثل كل الحكام المستبدين فان السيسي يستعين بأهل الثقة وليس بأهل الخبرة وهو يفضل دائما أن يحيط نفسه بالطبالين والمنافقين وقد حذر خبراء كثيرون من سد النهضة واقترحوا وسائل للتحرك الدولي لكن النظام كان يستبعدهم بل وكان اعلام السيسي يتهمهم بالعمالة والخيانة.
لازلت أتذكر محاضرة استمعت اليها منذ خمسة أعوام للمهندس العالمي ممدوح حمزه وقد أثبت فيها بالأدلة العلمية القاطعة ان سد النهضة مشروع سياسي من أجل اخضاع مصر بل وتنبأ بكل ما يحدث الآن. بدلا من أن يستفيد نظام السيسي من علم ممدوح حمزه تمت احالته للمحاكمة أمام محكمة الارهاب بالتهم الملفقة المعتادة: بث الأخبار الكاذبة والتشكيك في انجازات الدولة وتهديد السلم الاجتماعي الخ.. هكذا استبعد السيسي الخبراء الوطنيين المخلصين واعتقل كثيرين منهم ولو انه استفاد بعلمهم لما وصلنا إلى هذه الأزمة.
خامسا: مصر تقف وحدها تماما في هذه الأزمة لأن الحكومة السودانية قد اتخذت موقفا غامضا متأرجحا لا يعول عليه ودول الخليج والحكومات الغربية لا تحرك ساكنا وتتفرج على مصر وهي تخوض معركة تهدد وجودها. بغض النظر عن موقفنا من السيسي فان واجبنا كمصريين يحتم علينا مساندة بلادنا في هذه الأزمة. أقترح كخطوة أولى أن يعمل المصريون المقيمون في أمريكا وأوربا على اقناع الرأي العام في الغرب بحقوق مصر المشروعة التي سيهدرها سد النهضة الذي يخالف القانون الدولي وينتهك اتفاقيات دولية عديدة.
اسلمي يا مصر
الديمقراطية هي الحل
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.