غوستاف مالر: انطلاقة الحداثة في عالم الموسيقى الكلاسيكية
١٨ مايو ٢٠١١بين الرؤية السوداوية وأخرى ساخرة، وبين عبقرية الإبداع الموسيقي وضغوطات الهوية الدينية والثقافية، عاش غوستاف مالر آخر مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية النمساويين الكبار بين مكان ولادته عام 1860 في كاليشتا، بمقاطعة بوهيميا في التشيك، وبين عاصمة إمبراطورية النمسا والمجر فيينا عام 1911. رحل وارتحل من والى عدة مدن أوروبية وأمريكية، وقاد أبرز فرق الاوركسترا في أوروبا حينذاك.
بدأ مالر الطفل رحلته مع الموسيقى في سن الرابعة مع جهاز الأكورديون. بعد ذلك بقليل بدأ بتعلم العزف على البيانو. وفي سن السادسة صار يُعلمُ العزفَ على البيانو وكتب حينها أولى مقطوعاته الموسيقية. الى جانب الموسيقى الشعبية الراقصة أثرت فيه الموسيقى العسكرية، التي كان يسمعها في بلدة أيغلاو، التي انتقلت اليها العائلة للسكن فيها. كما تأثر بالموسيقى التي كانت تعزف في المعبد اليهودي والموسيقى اليديشية، وهي موسيقى يهود شرقي أوروبا. أثرت كل هذه النغمات في عقل الصغير غوستاف. وبقيت عالقة في ذهن المؤلف الموسيقى، لتظهر في كل أعماله. في عمر تجاوز الخمسين عاما فقط كان مالر قد أنتج عشر سيمفونيات وتسع مقطوعات موسيقية شعرية.
ظل العملاق بتهوفن
عاش مالر في فترة الانتقال بين القرنيين التاسع عشر والعشرين. وكأي فنان، انعكست الأوضاع التي كان يمر بها العالم حوله على أعماله الموسيقية. فقد كان يعيش في عالم ووطن ومجتمع ينحل ويتغير. ورغم أن مالر كان ابن عصره في تحولاته، إلا انه سبق عصره في موسيقاه. وقد حاول مالر إيجاد إجابات عن العالم من حوله، والبحث في خفايا الحياة والموت. ففي السيمفونية الثالثة، حاول الإجابة عما تقوله الطبيعة والحياة، إلا انه وجد نفسه في النهاية يبحث عما يقول له الموت. صوَّرَ مالر الكون في هذه السيمفونية من منطلقها الأولي ووصولا إلى الخالق. انعكست فيها أيضا روحه المتسائلة الباحثة عن إجابات، خاصة من خلال مطالعاته الفلسفية. أما سيمفونيته الأولى فقد أتمها في عام 1888 وعزفت لأول مرة في بودابست، وأستغرق مالر وقتا طويلا في انجازها. فهو مثله مثل الكثيرين من مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية، الذين جاءوا بعد بتهوفن، احتاج إلى وقت طويل للخروج من ظل هذا الموسيقي العملاق. خاصة عند كتابة السيمفونية الأولى. ويحسب لهذه السيمفونية، عند الاستماع إليها، أنها تختلف عن موسيقى القرن التاسع عشر.
أما أشهر سيمفونياته العشر، فهي التاسعة، التي تردد كثيرا في كتابتها خوفا من لقاء نفس مصير بيتهوفن وبروكنر اللذان، قضيا قبل إنهاء سيمفونياتهما التاسعة. ومحاولة منه لأباسها ثوبا يخفيها عن الموت، كتبها كمجموعة أغان وأطلق عليها "أنشودة الأرض"، مقتبساً كلماتها من أغنية صينية قديمة. وبعكس أعماله التي طبعتها السوداوية، كانت السيمفونية العاشرة رومانسية عاطفية وصلت فيها روح مالر الموسيقية إلى قمة الإبداع الفني.
الإنسان والفنان والتحولات
بجانب تأليفه السيمفوني انشغل مالر كثيرا بقيادة الاوركسترا. فقد عمل أولا في موطنه الأم التشيك وفي مدن أوروبية عدة، مثل كاسل ولايبتزغ وبادن هال في ألمانيا. وفي المجر قاد الفرقة السيمفونية الملكية في بودابست، وعمل مديرا لدار الأوبرا في فيينا. تحول مالر من نهج العقيدة اليهودية إلى العقيدة الكاثوليكية عام 1897 وتزوج في عام 1902 من آلما شندلر، التي تصغره بتسعة عشرة عاما وهي موسيقية نمساوية أيضا. وتميزت الفترة التي عاشها بعد زواجه في فيينا حتى عام 1907 بصعوبة بالغة نتيجة المؤامرات التي كانت تحاك ضده. وازداد الأمر سوءا بعد وفاة ابنته البكر ماريا بمرض الحمى القرمزية. ليغادر بعدها إلى نيويورك ويعمل في اوبرا متروبوليتان، وقد تدنت حالته الصحية بشكل كبير حيث كان يعاني من مشاكل في القلب، ليتوفى في الثامن عشر من مايو/ آيار عام 1911 ، ويترك تركة فنية كبيرة رغم حياته القصيرة نسبياً.
انطلاقة الحداثة
قال مالر مرة، ان موسيقاه ستدوم أطول من موسيقى معاصره ريتشارد شتراوس. كما قال إنه يتمنى أن يتم عزف كل سيمفونياته كمجموعة متكاملة وللمرة الأولى بعد موته بخمسين عام: نبوءة صدقت، إذ يعتبر عام 1960 هو عام عودة الروح إلى موسيقاه، فقد تم الاحتفال بها عبر كل العالم، كما كتب الفيلسوف الألماني وناقد الحداثة تيودور أدورنو كتاب عن مالر سماه: " مالر: ملامح وجه موسيقية"، حيث يرى ادورنو في موسيقى مالر، انعكاسا لتمزق الذات البرجوازية. ويعتبر مالر من ابرز ممثلي المرحلة الانتقالية من الرومانسية المتأخرة إلى مرحلة الحداثة. اذ يؤكد النقاد أن وصفة مالر الموسيقية، غيرت من نهج الموسيقى الكلاسيكية، و فاقت كل التوقعات من حيث انتشارها. بل إن انتشارها مازال مستمر بدون انقطاع. والغريب أن شهرة مالر في حياته كقائد اوركسترا فاقت شهرته كمؤلف موسيقي. فهو ظاهرة فريدة من نوعها، إذ انتشرت إعماله الموسيقية بعد وفاته - مثلما كان يأمل - بعد خمسين عاما. فانطلقت لتسمع في كل أنحاء العالم.
عباس الخشالي
مراجعة: عبدالحي العلمي