فولفغانغ بورشرت: حياة بين أهوال الجبهات وغياهب السجون
ولد فولفغانغ بورشرت في احد بيوت هامبورغ الصغيرة في 20 أيار/ماي عام 1921. كانت تحدوه رغبة جامحة للتمثيل. اجبره والده على دراسة علوم المكتبات. الأمر الذي دفع بورشرت الى دراسة التمثيل عند المخرج هيلموت غمالين بشكل سري. بعد سنتين ترك دراسة علوم المكتبات واتجه لدراسة التمثيل ونشر أولى قصائده في جريدة "هامبورغر انتسايغر". عمل عام 1941 ممثلاً في إحدى المسارح الجوالة. كانت هذه الفترة من أجمل فترات حياته حين تحقق حلمه في الوقوف على خشبة المسرح، لكن الأمر سرعان ما انتهى عندما استدعي لأداء الخدمة العسكرية التي كانت في أوجها.
مأساة وآلام
تم استدعاء بورشرت للخدمة العسكرية في حزيران/يونيو 1941 وتلقى تدريباً في صنف المشاة والمخابرة. أغضبت بورشرت الظروف غير الإنسانية للحياة العسكرية في الجيش النازي. فكتب في رسائله إلى عائلته واصدقائه عن لحظات الرعب والمهانة التي يعانيها الجنود. كتب إلى أمه ذات مرة: "اشعر أن الثكنات ليس سوى حصن لعبيد الرايخ الثالث."
أرسل بورشرت بعيد ذلك إلى مدينة كالينين السوفيتية في الجبهة الشرقية. هنالك كان بورشرت شاهد عيان على المعارك الضارية الخاسرة التي غالباً ما كانت تنتهي بهزيمة الجنود الذي أعياهم الجوع والبرد، خلافاً لما كانت تروج له أبواق الدعاية النازية.
تدهور وضع بورشرت الصحي بعد أن أُصيب بالحمى الصفراء. اتهم بعد ذلك بجرح نفسه متعمداً بغية إسقاط الخدمة العسكرية عنه. فادخل سجن التحقيقات في نورنبيرغ وتُرك في زنزانة انفرادية لأكثر من ثلاثة اشهر. زاد من طولها نوبات الحمى الصفراء التي لم تكن تفارقه. طال انتظاره للمحاكمة التي حكمت بإطلاق سراحه، إلا انه بقي رهين الزنزانة الانفرادية لاتهامات جديدة. فسجن لستة اسابيع أرسل بعدها إلى الجبهة مباشرة.
تميزت السنتين اللاحقتين من حياته بالمعاناة الصامتة تحت وطأة التنقل المستمر بين الجبهات والمعارك في ظروف سيئة أدت إلى تدهور حالته الصحية باستمرار. أجبرته نوبات الحمى الصفراء وحالات التجمد المتكررة إلى دخول المستشفى العسكري لأكثر من مرة. فصدر قرار بنقله للعمل في المسرح العسكري لعدم قدرته على القتال. فرح الجندي الشاب ولكن الرياح لم تأتِ بما يشتهي. فقد وشي به بسبب نكته عن "غوبلز" أطلقها في أوج لحظات سعادته. فانتهى به الأمر إلى السجن لتسعة اشهر أخرى، بتهمة "تخريب معنويات الجنود". عاد بعدها إلى الجبهة عام 1944 "لمواجهة العدو."
استسلمت فرقته العسكرية للقوات الفرنسية في آذار/مارس أثناء توجهها للقتال جنوب نهر الراين. ونجح بورشرت في الهرب أثناء نقلهم الى معسكر الاعتقال. وقطع، بورشرت الذي سيطر عليه آلام المرض، على قدميه أكثر من 600 كيلومتر محفوفة بالأخطار والصعوبات. متجهاً إلى عائلته في هامبورغ، التي وصلها في العاشر من أيار/ مايو من العام نفسه.
سباق مع الموت
حاول بورشرت في الأسابيع التي تلت عودته البحث عن كل ما يوصله مجدداً إلى حياته القديمة. فأسس في تشرين الثاني/نوفمبر مع معلمه القديم فرقة مسرحية صغيرة كان اسمها "الكوميديا". إذ ساعد في إخراج بعض الأعمال المسرحية، تحت وطأة الإجهاد والمرض الذي لم يبارحه. وتحت ضغط آلام كبده المريض في نهاية عام 1945 اجبر على البقاء في السرير حتى أخر أيامه. ادخل بورشرت إلى المستشفى في بدايات عام 1946 ولكنه سرعان ما غادره بعد ان رأى الأطباء انه مرضه غير قابل للشفاء وان نصيبه المتبقي من الحياة لا يزيد على العام . لم يعبأ بورشرت بذلك ولم يعير انتباهاً لآلامه، واتجه للتأليف، فكتب 24 قصةً حتى نهاية العام، من ضمنها قصة "زهرة سن الأسد" التي يصور فيها تجربة احد السجناء الذي أعياه صمت الحياة وتكرار مفرداتها داخل السجن. كره مشاعر الألم النابعة من الوجوه المترعة بالخوف. فبدأ بحثاً مهموماً عن شكل آخر للحياة انتهى به إلى وردة صغيرة في باحة السجن.
في الخارج أمام الباب
نشر بورشرت في العام نفسه مجموعة شعرية بعنوان "قنديل وليل ونجوم" ضمنها قصائد قديمة من الفترة المحصورة بين 1940 حتى 1945. كتب مسرحيته اليتيمة "في الخارج أمام الباب" عام 1947 في فترة لم تتجاوز الثلاثة اسابيع. صور فيها عودة العائدين من الجبهة وقد وجدوا عالماً من الحطام المادي والإنساني الذي حال دون دخولهم في حياة ما بعد الحرب. إذ ان بطل المسرحية "بيكمان" لا يجد له مكاناً في مجتمع ما بعد الحرب بعد ان عاد ليجد ان ليس له بيت او عائلة. فأبنه الصغير مطمور تحت أنقاض البيت المهدم وزوجته مع رجل آخر. وليجد ان رئيسه السابق في الجيش، المسؤول عن مقتل بعض من رفاقه، قد أصبح رجلاً غنياً ويدير مسرحاً. تفشل محاولات بيكمان في الاندماج في هذا العالم الجديد الذي لا يفهمه. نشر عام 1947 مجموعة قصصية أخرى بعنوان "في هذا الثلاثاء".
الموت غريباً
في محاولة يائسة حصل بورشرت عن طريق بعض الأصدقاء على إقامة علاجية في سويسرا، فأُدخل مستشفى كلارا-شبيتال في بازل أملاً في شفاء لم يأتِ. زاد من غربته فيه عزلته عن عائلته وأصدقائه. كتب بورشرت هناك، مثقلاً بالحزن والألم والغربة، سطره الأخير في إعلانه ضد الحرب "إذاً هناك شيء واحد فحسب!" ومات في العشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1947، ولم يشهد العرض الافتتاحي لمسرحيته الوحيدة إذ عرضت في هامبورغ في اليوم التالي من وفاته. وتعد هذه المسرحية من أهم أعمال أدب ما بعد الحرب في ألمانيا، الذي اطلق عليه الكاتب الالماني هاينرش بول تسمية "أدب الأنقاض". منح بورشرت في كتاباته صوتاً للجيل الضائع المخدوع بشعارات الحروب والبطولة ودفع ثمن ذلك حياته التي حطمتها غياهب السجون وأهوال الجبهات، ليصور لنا قصصاً تدور أحداثها في ساحات الحرب، عن أشخاص يموتون ببطء وهم يحلمون بالسلام.
ترجماته إلى العربية
عرف قراء العربية أدب بورشرت مبكراً عندما ترجم مجدي يوسف مسرحيته إلى العربية عام 1962 بعنوان "أمام الباب". وفي عام 1966 ترجم له فؤاد رفقة قصة "في هذا الثلاثاء". كما اهتم العراقيون بأدب بورشرت وترجموا له الكثير من القصص القصيرة مثل "الخبز"و "ساعة المطبخ" و"في الليل تنام الجرذان أيضا" التي تصور صبياً يجلس امام كومة من الحطام كان منزل والديه بالأمس ليحرس جثة أخيه الصغير المطمورة تحت الحطام، خوفاً عليها من الجرذان. وفي عام 1994 تم عرض مسرحيته على خشبة مسرح الرشيد في بغداد، ضمن فعاليات مهرجان المسرح العراقي.
عماد م. غانم