في الخرطوم .. مظاهرات اقتصادية قد تجلب تغييراً سياسياً
٢٣ يونيو ٢٠١٢إزاء المظاهرات الطلابية والشبابية العارمة التى جابت شوارع العاصمة الخرطوم خلال الخمسة أيام الأخيرة، على خلفية القرارات الاقتصادية الأخيرة التي أعلنتها الدولة لمواجهة شبح الأزمة الاقتصادية الخانقة، شنت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات شملت قطاعات واسعة من الطلاب والناشطين فى العمل السياسى العام من الشباب، بجانب عدد من الإعلاميين والصحفيين المناوئين للحكومة.
ما يثير الاستغراب أن حملة الاعتقالات الواسعة التي نفذتها الأجهزة الأمنية خلال اليومين الماضيين طالت حتى مراسلة فضائية (بلومبيرغ) الأمريكية، سلمى ورداني، التي تحمل الجنسية المصرية وتعمل في الخرطوم منذ استفتاء جنوب السودان العام الماضي. واعتقلت ورداني أثناء تغطيتها لمظاهرة في الخرطوم الخميس الماضي (21 يونيو/ حزيران 2012)، بالإضافة إلى عدد من المراسلين الأجانب، من بينهم مراسل وكالة الأنباء الفرنسية، الذين سرعان ما أطلق سراحهم.
ويتوقع كثير من المراقبين والناشطين أن تثمر هذه المظاهرات في نهاية الأمر إلى تغيير جذري قد يُسهم فى إنهاء أمد النظام المتطاول لحكومة الإنقاذ، بينما يرى آخرون أن تغيير النظام لن يتم بهذه الصورة ما لم تشارك القوى السياسية المعارضة بصورة فاعلة فى المظاهرات.
جذور المشكلة
منذ أن أعلن جنوب السودان انفصاله عن السودان وتكوين دولة مستقلة فى يوليو/ تموز من العام الماضي، فقد السودان أكثر من 80 بالمائة من عائدات النفط الذي كانت تعتمد عليه الخزينة العامة بشكلٍ رئيسي فى تسيير دولاب العمل. عقب استقلال جنوب السودان، تخوَّف العديد من الاقتصاديين من انهيار الاقتصاد السوداني بسبب فقده لعائدات النفط الكبيرة، إلاَّ أن قادة الحزب الحاكم بثوا تطمينات غير مؤكدة تفيد بأن الوضع الاقتصادي مستقر ولن يتأثر بذهاب عائدات البترول، من بينهم وزير المالية علي محمود، الذي كان يرى أن عائدات الذهب المُكتشف حديثاًً مع عدد آخر من الموارد يمكن أن تسد ثغرة عائدات النفط.
ولم تكد تمضى شهورٌ قليلة حتى تراجع وزير المالية عن تصريحاته السابقة وأعلن عن تأثر الاقتصاد السوداني بفقده لعائدات النفط بصورة كبيرة. ومنذ ذلك الحين نشط وزير المالية فى تسويق عدد من المقترحات في الدوائر الاقتصادية داخل الحزب الحاكم وفى أروقة البرلمان وفي وسائل الإعلام الرسمية، لتلافي الأزمة الاقتصادية المحدقة بالاقتصاد السوداني المهدد بالانهيار فى أية لحظة. من بين هذه المقترحات رفع الدعم عن المحروقات، الأمر الذي يعني زيادة سعر جالون البنزين والجازولين بنسبة كبيرة، مما سيؤثر على أسعار السلع الاستهلاكية بصورة كبيرة، حسب ما يرى خبراء اقتصاديون.
اتهامات باعتقالات تعسفية
ردود أفعالٍ عديدة صاحبت قرار رفع الدعم عن المحروقات، تجلت في مظاهرات عمت العديد من أحياء وشوارع العاصمة الخرطوم. تمت الدعوة لمناهضة الزيادات الأخيرة عبر المواقع الإلكترونية وفي شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك. ومن أبرز الداعين للمناهضة والتظاهر كانت شبكة "مدونون بلا حدود"، التي تضم حوالي 300 مدوِّن. الشبكة أصدرت بياناً بعد اعتقال العديد من الناشطين على خلفية المظاهرات الشبابية والطلابية، أدانت فيه الاعتقالات وطالبت بإطلاق سراح المعتقلين فوراٌ أو تقديمهم إلى محاكمات عادلة.
ويقول وائل مبارك، منسقة شبكة "مدونون سودانيون بلا حدود"، في حديث مع DW عربية: "مثل هذه الاعتقالات لن تزيد الأحداث إلا سخونة، والقوانين والأعراف الدولية تبين ضروره تحديد مكان الاعتقال و تهمة الحبس". وطالب مبارك وسائل الإعلام ومنظمات العمل المدني بضروة الاضطلاع بواجباتها تجاه المواطنين والمجتمع، وتوثيق وضبط الأخبار والمعلومات.
من جهتها أعلنت الهيئة السودانية للدفاع عن الحقوق والحريات اعتقال رئيسها المناوب الدكتور كامل إدريس، المرشح السابق لرئاسة الجمهورية، واستمرار الإقامة الجبرية على منسق لجنة الحريات السياسية والمدنية، ازدهار جمعة. وأكدت الهيئة، في بيان حصلت عليه DW عربية، تصعيد موقفها الرافض لاستمرار انتهاك الحريات.
هذا وأكد منسق الهيئة، الدكتور فاروق محمد إبراهيم، لـDW عربية، أن الدكتور إدريس تعرض للاعتقال نهاية الأسبوع الماضي، قبل إطلاق سراحه واعتقاله مرة أخرى الخميس. وكشف إبراهيم عن انتهاكات في أوضاع حقوق الإنسان في الفترة الماضية والحالية، مضيفاً أن هذه التطورات أسهمت في استمرار تراجع أوضاع حقوق الانسان.
كما وصف محمد الفاتح العالم، الناشط في المجتمع المدني، المظاهرات بأنها دفعة مقدرة لكسر جدار الصمت والخوف وتوسيع دائرة المشاركة، إلا أنه أشار إلى أن تغيير النظام يعتمد على مدي تلاحم القوى السياسية. لكنه عاد وأكد على أنه حتى لو لم يسقط النظام، فهي شرارة تتراكم وتزداد، معتبراً أن "المظاهرات لن تقصم ظهر النظام، لأن السقوط الحقيقي للنظام سيأتي من خلال الإضراب السياسي".
لا مبالاة رسمية
من جانب آخر تبدو الحكومة غير مبالية بهذه المظاهرات، خصوصاً وأنها تدرك أن المعارضة السياسية غير قادرة على تحريك الشارع، بحسب ما أفاد قيادي بالحزب الحاكم لـDW عربية، طلب عدم كشف هويته. وِشدد القيادي على أن الحكومة ماضية فى تنفيذ سياساتها الاقتصادية لتجاوز الأزمة الراهنة، وفي نفس الوقت تشرع فى عملية التفاوض السياسي مع دولة جنوب السودان لمحاولة تهدئة الأوضاع الملتهبة في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان.
أيَّاً يكن الوضع، فإن المراقبين يرون أن المظاهرات التي تنظم في السودان حالياً يمكن أن تؤدي إلى نتائج حاسمة، قد تكون إحداها إسقاط النظام. لكن من جهة أخرى هناك تخوفات من فقدان هذه المظاهرات للقيادة السياسية الفاعلة، التي يمكن أن تستفيد من الوضع الحالي وتشرع في تغيير النظام.
عثمان شنقر – الخرطوم
مراجعة: ياسر أبو معيلق