قضية منطقة النوبة المصرية بين الإهمال والأمل
٢ يناير ٢٠١٢جلس مصطفى أمامي على كرسي داخل مقهى بمنطقة نصر النوبة في محافظة أسوان أقصى صعيد مصر, يرمقني بنظرة المتشكك في نواياي تجاه القضية النوبية .. وقال : ُيمكن للقضية النوبية أن تحل .. فقط إن توافرت الإرادة السياسية. مصطفى نوبي في الخمسينيات من عمره ينتمي لأجيال ولدت بعيدا عن وطنها الأصلي - النوبة القديمة - وتربى على روايات الآباء والأجداد على حلم العودة للوطن القديم .. حيث البيوت تطل على النيل و تحيط بها أشجار النخيل والسنط .
يتذكر هؤلاء تاريخ منطقة النوبة القديمة التي تمتد بأقصى جنوب مصر على مساحة تصل ل 650 كيلومترا وعبر الحدود مع السودان، وكيف تحرك منها الملك الفرعوني مينا ليوحد قطري مصر الشمالي والجنوبي ويقيم أول دولة موحدة في تاريخ العالم، كما يتذكرون الحكايات المتوارثة عن ملوك الأسرة الخامسة والعشرين الفرعونية: باعنخي وطهاركا العظيم وغيرهم .
يتذكرون أيضا كيف أقام أسلافهم على مدار آلاف الأعوام في تلك المنطقة إلى أن بدأت عملية التهجير مع بدء بناء السد العالي في عام 1964، بعدما تبين أن بناء السد وإقامة بحيرة خلفه تتجمع فيها المياه الزائدة عن حاجة مصر، من شأنها أن تغرق القرى النوبية الموجودة في تلك المنطقة، فكان القرار الرئاسي بنقل أهل النوبة من وراء السد إلى شماله وتسكينهم في مساكن بنتها حكومة جمال عبد الناصر آنذاك. لكن النوبيين يشتكون من أنه في الوقت الذي تضافرت فيه الجهود الدولية لإنقاذ معبد أبي سمبل، وٌقدمت تبرعات بملايين الدولارات لفك المعبد وتركيبه في منطقة آمنه، عانوا هم من إهمال استمر عقودا من الزمن.
النوبة ضحية للإهمال والتجاهل
كان البدء في عملية تهجير أربع وأربعين قرية نوبية إلى مناطق شمال السد العالي ميقاتا لتغيير سيطرأ على حياة النوبيين بشكل لم يعهدوه من قبل، فبعد أن كانت البيوت تطل على النيل والاقتصاد معتمدا على الزراعة ومغادرة الأرض خيارا غير مطروح في حياة النوبيين, اختلف المشهد بتغيير الظروف الجغرافية التي نقلت معظم القرى النوبية إلى مناطق صحراوية, تحيط بها الرمال من معظم الجهات، لتختفي بذلك المهنة الأساسية التي زاولها الآباء والأجداد.
ويجد معظم النوبيين أنفسهم مرغمين على المغادرة نحو الشمال بحثا عن الرزق. وفي الموقع الجديد الذي انتقل إليه النوبيون ظلت القرى الأربع والأربعون بأسمائها كما كانت قبل التهجير, كما أصبحت منطقة نصر النوبة هي المركز المدني لتلك القرى, الأوسع لقضاء احتياجاتهم اليومية والأشمل لعقد لقاءات لناشطين يتحدثون عن القضية النوبية.
ويرى مصطفى فرح، رئيس مكتب الشهر العقاري في مركز نصر النوبة, وأحد الناشطين المدافعين عن القضية النوبية, أن النوبيين هم العنصر الأصلي لشعب مصر, وأن هذا قد يكون سببا في الإهمال المتعمد الذي عانوه منذ تهجيرهم من قراهم , بعدم الحصول على منازل كافية في مناطق التهجير التي انتقلوا إليها , كما أن معظمهم لم يحصل على التعويضات التي أقرتها الدولة لأهل النوبة، فضلا عن تخلي الحكومات المتعاقبة عن أي خطة جادة لتطوير مناطقهم الجديدة.
كما أن فرح يلوم ميراثا من التغييب المتعمد مارسه التعليم الحكومي ووسائل الإعلام, إما عن طريق طمس التضحيات النوبية وتجاهلها في كتب التاريخ والتراث ووسائل الإعلام أو إلصاق صورة ذهنية متواضعة للنوبي في الأفلام السينمائية بظهوره في دور البواب أو الخادم الجاهل, ذي اللكنة المضحكة. ويؤكد فرح أن الدولة يمكنها - إذا أرادت - أن تعيد للنوبيين حقهم بقرار يمنح النوبيين الحق في العودة إلى المناطق التي لم تغرق بمياه السد العالي, أو أراض بديلة على ضفاف النيل تكون صالحة للزراعة بدلا من الأراضي القاحلة التي ُهجروا إليها.
تدويل القضية واتهامات بالعمالة
كان شعور النوبيين بالإهمال على مدار أربعة عقود, دافعا لعدد من نشطائهم لتصعيد مطالبهم لسقف دولي, بعد أن شعروا أن الحكومات المصرية أدارت ظهرها لهم , وبدأت للمرة الأولى تظهر عبارات تدويل القضية النوبية والاستعانة بالأمم المتحدة للضغط على الحكومة المصرية لتنفيذ المطالب النوبية, كما أدت إثارة القضية النوبية في مؤتمرات للأقليات نظمتها الأمم المتحدة, إلى توتر العلاقة بين الدولة خلال عهد مبارك والنوبيين الذين وجهت إليهم تهم الخيانة وإعطاء الغرب فرصة للتدخل في الشئون المصرية من خلال الورقة النوبية.
النوبة بعد ثورة يناير
بعد اندلاع ثورة يناير وسقوط نظام مبارك, استبشر النوبيون بإمكانية حل قضيتهم بالعودة إلى أراضيهم التي لم تغرق أو الحصول على تعويضات وأراض أخرى مناسبة, وتم عقد لقاءات بين نشطاء نوبيين وممثلين للحكومة، لكن دون أن تشهد القضية النوبية تقدما يذكر, خاصة في ظل حالة التخبط التي تعاني منها الدولة المصرية في الوقت الراهن.
وضاعف من حجم الاستياء النوبي التقسيم الانتخابي الذي أقره المجلس العسكري بعد سقوط مبارك, وتتم بموجبه الانتخابات البرلمانية بعدما دمج محافظة أسوان في دائرة انتخابية واحدة تضم مناطق ادفو وكوم أمبو والنوبة مما يحرم النوبيين من فرصة الحصول على ممثل لهم في البرلمان, بالنظر إلى أعدادهم القليلة بالمقارنة مع المناطق الأخرى في محافظة تشتهر بالتصويت على أسس عصبية وقبلية.
ويؤكد النوبيون أن إصرارهم على تصعيد قضيتهم هو محاولة مشروعة لاسترداد حقوقهم, و يتساءلون كيف يمكن أن توجه إليهم الاتهامات بالخيانة ، وهم من استخدم الرئيس السابق أنور السادات لغتهم كشفرة يصعب فكها في حرب تشرين أكتوبر 1973 , كما يحلمون بيوم ُتحل فيه قضيتهم ويمنحون فيه حقوقهم المادية والأخلاقية وأولها العودة إلى أرض الأجداد.
عمرو صالح ـ القاهرة
مراجعة: محمد المزياني