قمة بايدن وبوتين .. وشبح الخطر النووي السيبراني
١٦ يونيو ٢٠٢١لقد بدأت حرب سيبرانية عالمية، وربما لن تنتهي. هذه هي الحقيقة المرّة التي يجب أن تواجهها الحكومات والجيوش وأجهزة المخابرات والشركات والأفراد في كل مكان. هذه الحرب هي الآن في قلب الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا.
إنها حرب تضع دولاً في مواجهة دول، ومجرمين في مواجهة شركات، وكثيراً ما تضيع فيها الهويات. ومؤخراً بات عدد أكبر من المدنيين ضحية لها، سواءً كأهداف مباشرة أو كضرر ثانوي في العصر الرقمي.
ويقول الباحث الأمريكي في مؤسسة "مركز الأمن الأمريكي الحديث" والمحلل السابق في وحدة التقنيات الناشئة بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)، مارتين راسر: "لدينا مزيج من العمل على المستويين الرسمي وغير الرسمي، للبحث عن الثغرات بشكل مستمر ومهاجمة الشبكات حول العالم .. هذا هو واقع الحياة في القرن الحادي والعشرين، وهو أمر علينا التعامل معه".
راسر كان يتحدث ضمن الفيلم الوثائقي "حروب المستقبل – وكيف يمكن منعها"، الذي أنتجته دي دبليو (DW) حول الموضوع.
البند الخامس في الناتو
هذا الواقع تم التأكيد عليه من خلال ذكر كلمة "سيبراني" 25 مرة في البيان النهائي الأخير لقمة حلف شمال الأطلسي التي عُقدت هذا الأسبوع. فقد وقعت الدول الأعضاء في الحلف على "سياسة دفاع سيبراني شاملة"، والتي تؤكد على أن الهجوم السيبراني، لو كان فادحاً بما فيه الكفاية، يمكن أن يكون سبباً لتفعيل البند الخامس من ميثاق الحلف، والذي يعتبر أي هجوم على عضو في الحلف بمثابة هجوم على الحلف بأكمله.
بعض أهداف الهجمات الأخيرة كانت أجزاء من الحكومة الأمريكية، والبرلمان الألماني (بوندستاغ)، وحملات الانتخابات في فرنسا. كما تم أخذ عدد من شبكات الشركات رهينة مقابل فدية مالية. هذه هي الهجمات التي ندري عنها.
قطع الضوء
أحد أكثر الهجمات فداحة في السنوات الأخيرة استهدفت شبكة الكهرباء الوطنية الأوكرانية، والتي تسببت في انقطاع التيار الكهربائي عن أكثر من 200 ألف شخص في شتاء عام 2015. هذا الحادث أظهر قدرة الهجمات السيبرانية على إخضاع مجتمعات بأكملها.
آنذاك، حمّلت كييف وواشنطن روسيا مسؤولية الهجوم، فيما أشارت الولايات المتحدة بأصابع الاتهام في نهاية عام 2020 تحديداً لبعض ضباط وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية، التابعة لمديرية المخابرات الروسية (جي آر يو).
وفي معرض إعلان التهم، قال جون ديميرز، مساعد المدعي العام الأمريكي آنذاك: "هذه كانت أول حالة موثقة لهجوم مدمر ببرامج خبيثة على أنظمة التحكم ببنى تحتية مدنية أساسية ... لم تتمكن دولة من تحويل قدراتها السيبرانية بهذا الشر واللامسؤولية مثل روسيا".
أكثر البنى التحتية حساسية في العالم
الهجمات السيبرانية على البنى التحتية المدنية سببت قلقاً كبيراً في الشارع، وثار جدل حول سبل الحماية منها.
لكن الحرب السيبرانية يمكنها أن تستهدف أيضاً مجال الأسلحة النووية، وهو أمر أكثر جدية لم تتحدث عن خطورته سوى مجموعة قليلة من الخبراء. في هذا الصدد، يشير جيمس أكتون، المدير المشترك لبرنامج السياسة النووية بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في واشنطن: "هذه قضية نقاش على قدر كبير من الأهمية والصعوبة، لأن المعلومات حولها تندرج تحت بند السرية المطلقة".
قلق أكتون لا يتركز على الهجمات السيبرانية على الأسلحة النووية نفسها، بل على أنظمة القيادة والتحكم المحيطة بها، مضيفاً: "قيادة الأسلحة النووية والتحكم بها هو كل شيء، عدا السلاح النووي نفسه، والتي تكون ضرورية لتشغيل السلاح".
لهذا، فإن هذه تعتبر أكثر البنى التحتية حساسية في العالم، لدرجة أن الولايات المتحدة قالت في آخر عدد من تقرير "مراجعة الموقف النووي" إنها سترد بضربة نووية على أي استهداف لتلك البنية.
رقمنة النووي
هذا التحذير يشي بأن البنية التحتية للأسلحة النووية أصبحت أكثر عرضة للاختراق في العصر الرقمي. ويشير أكتون تحديداً إلى أنظمة الاتصال بعيدة المدى والتحذير المبكر كمكونات أكثر حساسية للتشويش عليها: "إنها أنظمة تعتمد بشكل متزايد على الإشارات الرقمية بدل القياسية، وعلى أنظمة تشغيل مرتبطة بالإنترنت ورقم بروتوكول الإنترنت (آي بي). أنظمة القيادة والتحكم القديمة لم تكن تستخدم أنظمة رقمية يمكن مهاجمتها سيبرانياً. إنها لا تمتلك نصوصاً برمجية لمهاجمتها".
لكن الفرصة الآن باتت ممكنة، والدوافع أيضاً، سواءً بغرض التجسس أو التشويش. يقول جيمس أكتون: "هنالك عدة دول يمكن أن يكون لديها حافز للتجسس السيبراني، أو التحضير لهجمات سيبرانية من خلال زرع برامج خبيثة موجهة ضد أنظمة الإنذار المبكر الأمريكية ... كوريا الشمالية لديها حافز للقيام بذلك. الصين لديها حافز للقيام بذلك. روسيا لديها حافز للقيام بذلك، ودول أخرى كثيرة، أيضاً".
التشابك النووي
ما يزيد هذا الوضع تعقيداً هو أن الكثير من منشآت القيادة والتحكم الأمريكية لم تعد تشرف على الأسلحة النووية فقط، بل امتدت إلى أنظمة تقليدية أخرى. يصف أكتون هذه الظاهرة بـ"التشابك"، ويتابع بالقول إن "الولايات المتحدة لم تعد تمتلك نظام قيادة وتحكم نووي منفصل. لدينا نظام قيادة وتحكم يشرف على العمليات النووية وغير النووية".
هذا يعني أن خصوم الولايات المتحدة سيكون لديهم دافع أكبر لإطلاق برمجيات خبيثة بهدف التجسس أو التشويش على العمليات التقليدية أيضاً. ولكن حتى لو كان الهجوم موجهاً للأسلحة التقليدية، فإن أكتون يشدد على أن الأمريكيين لن يكونوا قادرين على ملاحظة الفرق: "قد يبدو الأمر لنا وكأنهم يحاولون تعطيل ترسانتنا النووية، وهو شيء قد يتطور بسرعة وفداحة كبيرين".
شك قاتل
إن القوة الفتاكة التي تقود احتمال التصعيد هذا هي الشك: الشك في مصدر وهدف البرنامج الخبيث، إذ يوضح أكتون: "إذا ما اكتشفت برمجة خبيثة في شبكاتك، سيكون من الصعب معرفة وظيفة هذه البرمجة. تحليل البرنامج وفهم ما يحاول الطرف الآخر القيام به يستغرق وقتاً طويلاً. هذا يجعل من الصعب معرفة ما إذا كان هذا البرنامج الخبيث للتجسس فقط، أم له أهداف هجومية".
ويسرد أكتون في الفيلم الوثائقي لـ DW سيناريو يظهر سرعة تدهور الأمور في ظل حالة الشك المطلق بين روسيا والغرب. فالشك مع سرعة الحرب السيبرانية تمتزج مع الإمكانات الهائلة للأسلحة النووية، ما قد يطلق شرارة دوامة من التصعيد ربما تنتهي بحرب نووية.
استقرار استراتيجي
مع عقد الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين قمتهما الأولى اليوم، انتعشت الآمال بأنهما ربما يخاطبان هذه الاحتمالات الخطيرة تحت شعار "الاستقرار الاستراتيجي".
ويعتقد أكتون أن بالإمكان وضع ضمانات أحادية الجانب: "على الدول أن تتبنى قاعدة تقول إنه في حالة إطلاق هجوم سيبراني على نظام قيادة وتحكم نووي، أو نظام مزدوج الاستخدام، يجب أن يوقع على الهجوم وزير الدفاع أو رئيس الدولة، كي نضمن ألا تتحول مثل هذه الهجمات إلى روتين".
لكن خطوات معقولة أكثر ستتطلب تعاوناً بين القوى الكبرى، بحسب أكتون: "يمكن أن نتخيل سلوكاً موحداً تتفق من خلاله الولايات المتحدة وروسيا والصين على عدم إطلاق هجمات سيبرانية على أنظمة القيادة والتحكم". ويتابع الخبير الأمريكي بالقول: "الفكرة هي أنه لو اكتشفت تدخلاً من دولة أخرى في شبكتك، فإن هذا الاتفاق سيصبح لاغياً، سيمكنك مهاجمة شبكاتهم، ومن خلال ذلك، يمكنك تعزيز تطبيق هذا الاتفاق من خلال الردع المتبادل".
لا قابلية للحوار
يتفق مارتين راسر بأن مناقشة هذه الفكرة سيكون "مليئاً بالصعوبات"، لاسيما وأن سقف التوقعات فيما يخص قمة بايدن وبوتين منخفض، والحدث الأكثر تفاؤلاً سيكون مناقشتهما لمستوى منخفض من الاستقرار الاستراتيجي.
ويقارن راسر الوقت الراهن بالأيام الأولى لسباق التسلح النووي: "الأمور متشابهة للغاية، في اعتقادي، مع النقاشات التي كانت تعقد حول الأسلحة النووية في الأربعينيات والخمسينيات ... وإن كانت التعقيدات الآن أكثر بكثير".
إلى ذلك، فإن السرية عائق كبير، إذ يقول أكتون: "لن نخوض مفاوضات مع روسيا ونقول: لدينا هذه الإمكانية التي نستطيع من خلالها استغلال تلك الثغرة. كيف ستشعرون لو قمنا باستغلالها؟ سنحتفظ بأوراقنا قريبة إلى صدرنا، سواءً تلك المتعلقة بمخاوفنا من ثغراتنا، وإمكاناتنا لاستغلال ثغرات الآخر. لهذا، يجب أن تكون هناك مراجعة داخلية جادة ومعمقة لدى كل دولة، من أجل قول شيء مفيد حول هذا التداخل النووي السيبراني".
لا ثقة دون تأكد
تراجع الثقة بين القوى العظمى يبقى إشكالاً أساسياً، بحسب أمانديب سينغ غيل، خبير الأمم المتحدة في حظر انتشار الأسلحة ذاتية التشغيل،: "عندما لا تكون هناك ثقة، فإنك تميل إلى نسب كل النوايا الممكنة للطرف الآخر، والمبالغة في تقدير ما يمكنهم القيام به، والإفراط في مقدار ردك عليه".
"ثق، ولكن تأكد". هذه كانت سياسة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، في التعامل مع مخاطر مفاوضات حظر انتشار الأسلحة إبان الحرب الباردة. التأكد كان آنذاك يتم عبر إحصاء الرؤوس الصاروخية.
أما اليوم في العالم السيبراني، فإن التأكد لم يعد ممكناً، فلا يوجد أي شيء يمكن إحصاؤه. ولذلك، مع غرق العالم أكثر في الحقبة السيبرانية، فإن إيجاد أي أرضية للثقة بين القوى العظمى قد يكون أكبر تحد.
ريتشارد ووكر/ ي.أ/ع.ج.م