كريستيانا شتينغر- الحسناء ذات الذاكرة الحديدية
١٧ أكتوبر ٢٠١٠لم أكن اعلم أن زميلتي الجميلة تمتلك تلك الذاكرة القوية، إلا عندما جلسنا نحن الثلاثة أمام أستاذ مادة الفلسفة السياسية لأجراء الامتحان الشفهي الأخير لغرض الحصول على شهادة الماجستير. إذ حين انتهى الأستاذ من توجيه الأسئلة إليَّ والتي جعلني أعصر ذاكرتي بحث عن الإجابات بكل ما امتلك من طاقة، بدأ بسؤال كريستيانا. لكن ما أن سألها حتى بدأت بالإجابة على أسئلة الأستاذ بدون توقف، مثل جهاز مذياع لا ينقطع، الأمر الذي أثار استغرابي من قدرتها على حفظ كل هذا الكم الهائل من المعلومات.
وخلال ذلك لاحظت أنها حين تتوقف لثوان تبدأ باستدعاء شيئاً ما في رأسها، لتبدأ السرد من جديد. وأتذكر جيداً أنه حينما سألها عن مفهوم العدالة عند أفلاطون بدأت بطرح كل النقاشات التي دارت في رأس هذا الفيلسوف الإغريقي قبل ألفين وخمسمائة عام والتي دونها في كتابه الجمهورية، مما مكن كريستيانا شتينغر من حفظها بعد كل هذه السنين. أثار كل هذا فضولي واستغرابي في آن واحد مما دفعني لسؤال زميلتنا الأخرى بعد أن اجتزنا الاختبار نحن الثلاثة عن سبب قوة ذاكرة كريستيانا، فأجابتني: ألا تدري؟ كريستيانا بطلة العالم بقوة الذاكرة.
الذكاء أن يستخدم المرء عقله بذكاء
كرسيتيانا شتينغر في الثالثة والعشرين من عمرها، استطاعت أن تجتاز امتحان الثانوية العامة حينما كانت في السادسة عشرة. ولعل هذا الأمر ليس بالغريب، فهناك الكثير ممن يجتازون مراحل الدراسة بوقت أسرع من غيرهم. إلا أن ما يميز هذه الفتاة هي قدرتها على الحفظ أكثر من غيرها، مما ممكنها من الفوز ببطولة العالم لقوة الذاكرة أكثر من مرة. وهي بطولة تقام سنوياً في المملكة المتحدة، ويتم فيها اختبار المشاركين من خلال امتحان صعب للغاية، يتطلب اجتيازه القدرة على تذكر مئات الأعداد والأشكال والرسوم بالترتيب، وذلك بعد ملاحظتهم لكل هذه المعلومات لمرة واحدة فقط. فهل هي إذن قدرة خارقة على الحفظ يمتلكها المرء منذ ولادته، أم أن هناك سر ما يجعلهم يتمكنون من حفظ الأشياء أسرع من غيرهم؟
خلال حواري مع كريستيانا شتينغر عن هذا الأمر ذهبت إلى الاحتمال الثاني. وتقول شتينغر إن الأمر لا يتعدى أن يكون تدريباً يمارسه أولئك الأشخاص حادي الذاكرة، أو من الأفضل القول أن هؤلاء الناس طبيعيين جداً ويمتلكون مستوى عادي أو فوق العادي من الذكاء، إلا أنهم يشحذون ذاكرتهم بطريقة معينة. موضحة لهذه الطريقة أضافت شتينغر في حوار مع دويتشه فيله: "أحاول أن أحول الكلمات والأرقام أو أي شيء يصعب عليَّ تذكره إلى صور أو أشياء أخرى وأقوم بربط الصور هذه والأشكال مع بعضها من خلال قصة. فمثلاً لو أردت أن اذهب للتسوق وأخشى أن أنسى ما أريد شراءه من خبز وملح ولبن مثلاً، أقوم برسم القصة التالية في داخل عقلي: الخبز والملح يقومان بزيارة لصديقهم اللبن. وهكذا كلما كانت الفكرة أكثر جنونية كلما كانت القدرة على تذكرها وملاحظتها أفضل".
طريقة قديمة وقصص مغرقة بالخيال
وهذه الطريقة لتذكر الأشياء ليست وليدة اليوم أو اختراع جديد إلا أن شتينغر تدربت عليها منذ أن كانت في ربيعها السابع من العمر مع عشرة من الصغار من خلال دورة تدريبية خاصة. والطريقة هذه غاية في القدم وكانت تستخدم من قبل الرومان والإغريق وتسمى "منيمة تيكنة" أي (mnémē Téchnē) أي "فن الذاكرة" أو "تقنية الذاكرة". وهذه الطريقة بسيطة للغاية، فعلى المرء بعد أن يحول كل الأشياء التي يصعب عليه تذكرها إلى أشياء ممكن ملاحظتها، أن يرسم نقاط ارتكاز عند تخيل قصته التي يريد أن يتذكرها و"الأفضل أن يجعلها نقاطا حمراء يستعيدها حين يريد ذلك أو حين يفقد التركيز"، كما تقول شتينغر.
عن هذه النقاط الحمراء واهميتها في هذه الطريقة تقول شتينغر: "كل مصطلح أو فكرة رئيسية أصورها خلال القصة على أنها نقطة حمراء، فمثلاً في دراستي للعلوم السياسية في جامعة لودفيج ماكسميليان في ميونخ ولتذكر مفهوم العدالة عند أفلاطون صورت العدالة كالتالي. أولاً العدالة بيت، والنقطة الحمراء الأولى هي باب بيت العدالة وعند دخولي من خلال الباب شاهدت أفلاطون فاتحاً ذراعيه وهي إشارة لمفهوم العدالة عنده وهذه هي النقطة الحمراء الثانية".
وتضيف شتينغر قائلة: "ولأن أفلاطون يناقش مفهوم العدالة بأسلوب جدلي على لسان أستاذه سقراط، فانه يطرح مفاهيم عدة بطريقة جدلية، لغرض النقاش والوصول بالنهاية إلى الجواب الصحيح. ومن خلال النقاش يطرح أفلاطون مفهوما معيناً على لسان أستاذه سقراط خلال نقاش الأخير مع آخرين، احدهم يدعى "كيفالوس" والذي يقول إن العدالة هي: أن يعيد المرء ما يدين به للآخرين. وحتى لا أنسى هذا المفهوم للعدالة، صورتها على أنها كرسي جلست عليه في بيت الفيلسوف أفلاطون وعندما بدأ بإيلامي أعدته سريعاً إلى صاحبه أو أبعدته عني باستياء، فليس من العدالة وأنه لأمر مؤلم أن احتفظ بشي ما لا املكه".
إذن فالأمر لا يتعدى أن يحول المرء الأشياء إلى رموز قابلة للتذكر، وأن يربط كل تلك الرموز والأشياء مع بعضها البعض من خلال قصة ما. والجميل في هذه الطريقة لتقوية الذاكرة أنها تطور خيال من يمارسها، لتجعل منه كاتب قصص صغيرة جميلة مجنونة أحياناً. وهذه التقنية ملائمة لكل الأعمار فهي ليست حكراً على الشباب أو الأطفال. بل يمكن ممارستها من قبل كل فرد، كما تقول شتينغر. ولكنها تنصح التلاميذ والطلبة بشكل خاص باستخدام هذه الطريقة لغرض الحفظ، كما فعلت هي طيلة سنوات الدراسة، والتي مكنتها من أن تصبح الثانية على دفعتها في الجامعة.
لماذا يسقط الخروف من الشجرة
ليس غريباً أن يسقط الخروف من الشجرة، فالخروف لا يمتلك القدرة على البقاء على شجرة ما وذلك بسبب حوافره. ولكن الغريب في الأمر، هو كيف استطاع الخروف تسلق الشجرة ليسقط منها بعد ذلك؟ هذه واحدة من القصص الخيالية المجنونة لشتينغر، وهي عنوان كتابها الأول الصادر عام 2006 والذي وضعت فيه كل التقنيات الممكن تعلمها لغرض شحذ الذاكرة وتنشيطها. أما سر العلاقة بين الخروف الذي لم يستطع يوماً صعود الشجرة حتى يسقط منها، والشجرة، فيتلخص في أن شتينغر تطرح صورة مليئة بـ"الفانتازيا"، حين تحاول تذكر الرقم 41 مثلاً، فالرقم أربعة يشير إلى عدد أرجل الخروف المسكين الذي سقط من الشجرة، أما الشجرة نفسها، فإنها في مخيلة شتينغر تشير إلى رقم واحد، وذلك لامتداد جذع الشجرة، ليس في الطبيعة وحسب، وإنما في مخيلة شتينغر غير المحدودة.
آخر اختبار مرت به الحسناء كريستيانا شتينغر، كان اختباراً أجرته لها القناة الثانية في التلفزيون الألماني. وقد كان الاختبار كالتالي: مرر مقدمو برنامج استعراضي أمام شتينغر ولمرة واحدة، ثلاثين طفلاً، كل واحد يحمل بجانب رقم معين شيئاً ما، فواحد يحمل ساعة كبيرة والآخر جهاز تلفون، والثالث كرة قدم، والرابع برتقالة كبيرة، وهكذا. ثم تمت تغطية عيني كريستيانا، ومر الأطفال من جديد بالتسلسل من المشارك الأول وحتى الثلاثين، وهي لا تستطيع مشاهدتهم طبعاً، وطلب منها مقدمو البرنامج أن تذكر ما يحمل كل طفل، فاستطاعت أن تذكر بسرعة كل ما يحمله الأطفال وبالتسلسل ومن دون أخطاء.
وهذا لم يكن إلا اختباراً بسيطاً من مئات الاختبارات التي اجتازتها كريستيانا شتينغر، التي استطاعت أن تثبت، أن الجمال والذكاء ممكن أن يجتمعا معاً في جسد واحد.
عباس الخشالي
مراجعة: عماد مبارك غانم