ليبيا: التأرجح بين التفكك والقبضة الأمنية
١٢ مارس ٢٠١٤يرى خبراء أن حادثة ناقلة النفط الكورية، التي كانت محملة بالنفط بطريقة غير شرعية من مرفأ بمدينة برقة شرق ليبيا، جاءت لتقسم ظهر حكومة علي زيدان التي تكن يوما مستقرة منذ تعيينها في اكتوبر تشرين الأول 2012. ولتكشف عن أبعاد متعددة للتحديات التي تواجهها ليبيا بعد ثلاث سنوات من ثورتها التي أطاحت بنظام العقيد الراحل معمر القذافي، أولها عدم السيطرة على الحدود البلاد البحرية والبرية المترامية جغرافياً، وثانياً صعوبة الحفاظ على النفط وهو المورد الأساسي لاقتصاد البلاد، وثالثاً خروج الجماعات المسلحة والميليشيات عن سيطرة الجيش والأجهزة الأمنية، ورابعاً تنامي نزعات الاستقلالية عند الأقاليم مقابل ضعف مؤسسات الدولة المركزية.
فإلى أين تتجه ليبيا في ظل تعثر عملية الانتقال الديمقراطي وتصاعد أعمال العنف في البلاد: هل هي أقرب للحالة المصرية التي آلت فيها السيطرة للجيش؟ أم للحالة التونسية التي احتكمت للتوافق السياسي؟ أم ربما تكون البلاد مرشحة لمزيد من التدهور الأمني وحتى التفكك؟
بالنسبة للخبيرة الليبية الدكتورة آمال العبيدي أستاذة العلوم السياسية بجامعة بنغازي (شرق ليبيا) فإنه رغم نجاح ليبيا في تنظيم انتخابات حرة وديمقراطية في 07 يوليو/ تموز 2012، انبثق عنها المؤتمر الوطني وكان ينتظر أن تسفر عن بناء مؤسسات دستورية ديمقراطية، لكن الاضطرابات الأمنية تساهم في تعثر عملية الانتقال الديمقراطي.
وتوضح الخبيرة الليبية في حوار مع DWعربية أن محاولة إعادة بناء الجيش الليبي والأجهزة الأمنية انطلاقاً من إقصاء المؤسسات التقليدية وتصفية بعض رموزها بدعوى أنها موالية للنظام السابق، جعل المجموعات المسلحة التي ساهمت في الثورة تسيطر على الأوضاع الأمنية على حساب بناء مؤسسة وطنية للجيش والأمن.
لكن الدكتور عبد اللطيف الحناشي أستاذ الفكر السياسي بجامعة منوبة في تونس يرى أن "خطورة الأوضاع في ليبيا تكمن في غياب مؤسسات قوية بإمكانها أن تحسم الموقف". في حواره مع DWعربية يشير الخبير التونسي إلى عامل إضافي يمكن أن يساهم ايجابياً أو سلبياً في تطور أوضاع ليبيا، وهو "العامل الخارجي، أي القوى الدولية المؤثرة في أوضاع هذا البلد"، مشيراً إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص.
جيش وطني أم ميليشيات؟
وحول ما إذا كانت ليبيا أقرب للتأثر بالنموذج التونسي أم المصري، أم أن تطور الأوضاع فيها مفتوح على سيناريوهات أخرى، ويشكل دور الجيش والقوى المسلحة الموازية والمليشيات عنصراً مهماً في بلورة مآل ليبيا وأوضاعها، يقول الحناشي: "في مصر يلعب الجيش دوراً رئيسياً في الحياة السياسية منذ أكثر من قرن، بل ترتبط نشأة الدولة الحديثة في مصر بالجيش، وذلك منذ عهد محمد علي باشا وصولاً إلى المرحلة الحالية سواء تعلق الأمر بدوره المباشر في الحكم أو عبر سيطرته على حوالي 48 في المائة من الناتج الداخلي الخام".
ويتوقع الحناشي ان يزداد دور الجيش "خطورة على عملية الانتقال الديمقراطي في مصر بترشح وزير الدفاع الماريشال عبد الفتاح السياسي للرئاسة"، بينما "الجيش في ليبيا بعد الإطاحة بنظام القذافي، بات شبه مفكك، ومن يتحكم في الأمور هو جماعات مسلحة".
وتختلف الحالة الليبية عن تونس أيضاً، إذ يلعب الجيش "دوراً ناعماً في السياسة" عبر حمايته للثورة وتوفير ظروف الاستقرار الأمني لعملية الانتقال الديمقراطي، كما يقول الخبير التونسي.
وتبدو عملية إعادة بناء الجيش الليبي صعبة المنال، ومن أبرز التحديات التي تواجهها، الصراع المفتوح بين من يطلق عليه بالقوى التقليدية الموروثة من الجيش التي تركها العقيد الراحل القذافي، والمجموعات المسلحة التي ساهمت في الثورة. وفي هذا السياق تلاحظ الخبيرة الليبية آمال العبيدي أن جهود إعادة تنظيم الجيش وبنائه تصطدم بصعوبات كبيرة وهي "ليست فقط ميدانية تتعلق بالعنف والصراعات المسلحة، بل أيضاً في غياب مفهوم مشترك للمصلحة الوطنية لدى القوى السياسية وعدد من التكتلات داخل المؤتمر الوطني (البرلمان)"، ما يجعل قرارات "المؤتمر الوطني" محاطة بكثير من الارتباك والاضطرابات، وهو ما يقود بالتالي إلى تعثر عملية الانتقال الديمقراطي.
وتعتقد الخبيرة الليبية أن سيطرة الجيش في مصر على الحكم، ضاعف من المخاوف لدى عدد من القوى السياسية في ليبيا من "استيلاء الجيش على السلطة وإجهاض الثورة وعملية الانتقال الديمقراطي"، ما يفسر التردد لدى البعض في دعم عملية إعادة بناء الجيش وتقويته. لكن "الحل يكمن في تأهيل الثوار وإدماجهم في المؤسسة الأمنية والجيش، بدل استمرار حالة ضعفها الذي تستفيد منها الميليشيات المسلحة"، كما تقول آمال العبيدي.
مطالب الفيدرالية والمخاوف من التفكك
وبعد انتخاب لجنة صياغة الدستور (20 شباط/ فبراير 2014) يتطلع الليبيون الآن إلى وضع دستور جديد للبلاد، لكن يصعب التكهن حسب الخبراء بمدى فعاليته في حل معضلات كبيرة تهدد كيان الدولة الليبية الناشئة، ومن أهمها تنامي نزعات الاستقلالية لدى بعض الأقاليم، والتي ظهرت بشكل حاد في إقليم برقة شرق البلاد الذي أعلن دخوله بشكل أحادي في تطبيق نظام فيدرالي.
وتعتقد الخبيرة آمال العبيدي أن وضع دستور جديد "سيمكن البلاد من إطار كفيل باحتواء الكثير من المشاكل القائمة وضمنها إشكالية الفيدرالية، أو على الأقل يضعها في طريق الحل". بيد أن مشكلة الفيدرالية ليست وحدها ما يثير التنازع في ليبيا، فهنالك مشكلات أخرى على غرار قضايا الهوية اللغوية ومسألة العلاقة بين الدين والدولة وإشكالية الشريعة الإسلامية. هذه قضايا شائكة ترى آمال العبيدي أن حسمها يتطلب حواراً وطنياً شاملاً يفضي إلى "توافق سياسي ووطني"، ينعكس في نص الدستور.
ومن جهته يعتقد الخبير عبد اللطيف الحناشي أن نجاح عملية الانتقال الديمقراطي في ليبيا يحتاج مساعدة إقليمية ودولية، وهو يرى أن ذلك "ممكناً إذا ما وحدت القوى الغربية رؤيتها للوضع في ليبيا وساعدت هذا البلد على الخروج من الأزمة الحالية"، لكنه يخشى في الوقت ذاته من أن تهيمن ما يراه "حسابات ومصالح ضيقة". إذ يرى خبراء أن موارد ليبيا الضخمة من البترول واتساع المساحة الجغرافية للبلد، تجعله محط أطماع ليس فقط خارجية بل أيضاً نزعات داخلية في الاستئثار بالثروة النفطية. ويشيرون في ذلك إلى محاولة إقليم برقة تصدير النفط لحسابه، وهي مؤشرات تنطوي على مخاطر تفكك لكيان الدولة الليبية الناشئة.
وما يعزز هذه المخاوف تقاطع نشاط عدد من الجماعات المسلحة المتشددة داخل ليبيا مع جماعات إرهابية ضمنها تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، التي تنشط في منطقة جنوب الصحراء.
حراك مدني شعبي
ولم تمنع سطوة الميليشيات والجماعات المسلحة في البلاد، من تنامي الحراك المدني والشعبي في الأشهر القليلة الماضية، سواء في اتجاه المطالبة ببناء جيش وطني ومؤسسات أمنية شرعية وإزالة مظاهر التسلح في الشوارع والميليشيات، أو في التأكيد على ضرورة الإسراع بوضع دستور جديد وبناء مؤسسات ديمقراطية.
وبرأي الخبيرة آمال العبيدي فإن "إصرار الحراك الشعبي المدني وتمسكه بالخيار المدني والديمقراطي يشكل أفقاً لخروج البلاد من المأزق وفتح المجال لنجاح عملية الانتقال الديمقراطي".
ويتفق الحناشي مع العبيدي في ترجيح اتجاه القوى السياسية الليبية نحو التوافق على الدستور وبناء مؤسسات، لكن المهمة "ستكون صعبة"، كما يرى الخبيران، إذ تختلف ليبيا عن تونس التي تحقق فيها توافق سياسي حول الدستور وعملية الانتقال الديمقراطي. ففي تونس تم التوافق بفضل الدور القوي الذي لعبته قوى المجتمع المدني العريقة وقدرتها على إحداث توازن في مواجهة حزب النهضة الإسلامي الحاكم، بينما ورث الليبيون بعد ثورتهم فراغاً سياسياً ومدنياً لأن نمط حكم القذافي كان فردياً ويعتمد على تحالفات قبلية ومحلية.