"ليو مايّه" فنان يهودي نجا من المحرقة بأعجوبة
٢٣ فبراير ٢٠١٤"قفزت بكل ما أوتيت من قوة إلى حافة المنفذ، ثم دفعت نفسي بقوة كبيرة وارتميت خارج القطار ليرتطم رأسي بسكة الحديد. في تلك اللحظة توقعت أن تهشم عربة القطار التالية رأسي". بلغة تنعدم فيها العاطفية يروي ليو مايّهفي مذكراته كيف أفلت في آخر لحظة سنة 1943 من قطار الموت الذي كان سيقوده إلى معسكر الإبادة النازي. سقوطه هذا أدى إلى فقده عينه وتحطم فكه العلوي.
من عالم المال إلى الفن
كان ليو مايّهيدعى ليوبولد ماير قبل أن يقرر تغيير اسمه في وقت لاحق. عندما رأى النور في مدينة فرانكفورت الألمانية في التاسع والعشرين من مارس /آذار 1902 من أب يهودي كان يعمل تاجرا في المدينة، لم يكن هناك ما ينبئ بالمصير الفظيع الذي كان ينتظره في الحقبة النازية. فبعدما أنهى دراسته في مجال البنوك والتجارة أدرك ماير أن الفن هو شغفه الحقيقي، لذلك التحق سنة 1925 بمدرسة الفنون بفرانكفورت، حيث درس الغرافيك وغدا في وقت قصير متمكنا من كافة تقنيات الطباعة المعروفة وقتها. بعدها بسنوات ارتبط ليوبولد بماكس بيكمان، أبرز فنان تشكيلي ألماني في القرن العشرين، ولينضم إلى قسمه النخبوي. مستقبل الفنان في هذه المرحلة من عمره كان يبدو واعدا لا سيما وأنه حظي بمرسم خاص به في معهد شتيدل للفن والذي يعد من أهم المتاحف ومعاهد الفن في ألمانيا، إضافة إلى فوز لوحته الزيتية "شارع على ضفاف الماين" سنة 1931 بجائزة غوته التي تمنحها مدينة فرانكفورت للشخصيات البارزة في مجال الأدب والفن والعلوم. وإن كان ماير قد اعتبر في البداية المدرسة التعبيرية مذهبه في الفن اقتداء بأستاذه بيكمان الذي كان شديد التأثر به، إلا أنه طور مع مرور الزمن أسلوبه الفني الخاص به.
رحلة هروب شاقة
عندما وصل النازيون إلى الحكم عام 1933 اضطر ماير إلى الفرار من مسقط رأسه فرانكفورت مرورا بمختلف أنحاء أوروبا إلى أن وصل إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث نجح في بناء حياة جديدة مع شريكة حياته التي تزوجها لاحقا، تاركا وراءه والدته التي نقلها النازيون إلى معسكر الإبادة في ريغا، عاصمة لاتفيا، حيث قتلوها. أما أعماله فقد صنفها النازيون في خانة الفن المنحط وأتلفوا حوالي 50 لوحة و100 رسم غرافيكي من أعماله الفنية.
في باريس عمل ماير في البداية كمصور فوتوغرافي وتمكن من الحصول على مرسم صغير، ويقول عن تلك الفترة "لقد كانت الطلبيات التي تصلنا كثيرة وقتها، خاصة بورتريهات الأطفال". وعلاوة على التصوير اشتغل الفنان الشاب في مجال الطباعة والضغط على النحاس بورشة "لاكوريير" التي كان يتردد عليها الفنانان الاسبانيان الشهيران بابلو بيكاسو وخوان ميرو. في هذه المرحلة أنجز ماير العديد من الأعمال، غير أنها فقدت كلها باستثناء لوحة نحاسية واحدة نقش عليها بورتريه قطة وأطلق عليها اسم "متوحش".
عند اندلاع الحرب العالمية الثانية بدأت السلطات الفرنسية تنظر بعين الريبة إلى الألمان المقيمين على أرضها والمعارضين للحرب. فتم اعتقاله واقتياده إلى معسكر احتجاز، لكنه تمكن من الفرار منه. وعندما احتلت ألمانيا النازية فرنسا، أتلف الأمن النازي ما يزيد على مائتي لوحة زيتية ونحاسية عثر عليها في منزله الباريسي.
رسومات بالقهوة والنبيذ والدم!
غير أن رسومات ماير ليست هي الوحيدة التي وقعت في قبضة "الغستابو"، الشرطة السرية النازية، وإنما اعتقلته هو أيضا عام 1942 واقتادته إلى معسكر الاعتقال في ليه مي بالقرب من ايكس أون بروفانس جنوب فرنسا. أجواء القمع واليأس التي عاشها ماير هناك خطها وقتها بقلم الرصاص ثم أنتج عنها لاحقا لوحة بعنوان "قبل الترحيل القسري" ويظهر فيها أناس هائمون وتائهون في معسكر الاعتقال.
لكنه نجا من الاعتقال بالقفز من قطار الموت والفرار إلى جبال السيفين وسط فرنسا، المكان الذين شاء فيه أن ينتظر فرصة لمغادرة الأراضي الخاضعة لسيطرة النازيين وهو متنكر كراع للغنم. ولقد شكلت المناظر الطبيعية المحيطة به أثناء تجواله في المراعي مصدر إلهام لإنتاج أعمال جديدة رسمها باستعمال القهوة أو النبيذ أو الدم. لكن اختفى أثر كل الأعمال التي أنتجها ماير في هذه المرحلة والتي وصل عددها إلى الثلاثين. لكنه استوحى من مواضيع البعض منها أثناء رسم مجموعة من لوحاته لاحقا، وظهرت في العام 1971.
مذكرات فنية في معرض فرانكفورت
بعد تمكنه من الفرار إلى سويسرا عام 1944 غير ماير اسمه إلى مايّهوخلد نفسه في بورتريه ذاتي محاطا بأدوات الرسم، وكأنه يريد أن يؤكد لنفسه أنه فنان. هذه اللوحة ذات االمعاني التعبيرية القوية يمكن مشاهدتها في المعرض المخصص لمايه في المتحف اليهودي بفرانكفورت.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، قام مايه بمقاضاة الدولتين الألمانية والفرنسية بهدف الحصول على تعويضات باعتباره ضحية للحكم النازي. ومن خلال هذه التعويضات التي حصل عليها بعد رحلة طويلة في المحاكم، تمكن الفنان اليهودي من تأسيس حياة جديدة في سويسرا. وفي الثامن من مارس / آذار عام 1990 توفي ليو مايّهتاركا وراءه إرثا فنيا كبيرا، يسلط عليه الضوء المعرض الحالي في مسقط رأسه في فرانكفورت.