"مأزق الحوار التونسي مرده حسابات ضيقة وإقصاء الشباب"
٦ نوفمبر ٢٠١٣إعلان الجهات الراعية للحوار الوطني في تونس عن تعليق الحوار إلى "أجل غير مسمى"، بعث بإشارات حول عمق المأزق الذي آلت إليه جولات الحوار المارثونية التي جرت بين حزب النهضة الإسلامي الحاكم والمعارضة الليبرالية واليسارية، برعاية الاتحاد العام التونسي للشغل(المركزية النقابية القوية في البلاد) وثلاث هيئات غير حكومية أخرى.
وفي حوار مع DWيرى الدكتور هيكل بن محفوظ أستاذ القانون الدستوري في جامعة تونس، والخبير القانوني لدى عدد من المؤسسات الدولية، يعزو فشل الحوار الذي يهدف لإخراج البلاد من الأزمة السياسية التي أعقبت اغتيالات سياسية واضطرابات، إلى إخفاق النخب السياسية في إيجاد تصورات وبدائل ملائمة للمرحلة. ويعتقد الخبير التونسي أن سيناريو تصعيد الأوضاع في الشارع بتونس وارد ، لكنه يستبعد "انزلاق الأوضاع إلى السيناريو المصري".
وفيما يلي نص الحوار:
سؤال DW: بعد إعلان أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل الراعي الرئيسي للحوار الوطني، تعليق الحوار، هل توجد البلاد في مأزق أم هنالك فرص لإنقاذ الحوار؟
د. هيكل بن محفوظ: حسب تصريحات أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل السيد حسين العباسي، فإن تعليق الحوار هو لأجل غير مسمَى. لكن الأطراف الراعية للحوار رفضت أن تعتبر تعليق الحوار فشلا للحوار، وإن كانت بوادر الفشل قد لاحت منذ الجلسة الأولى للحوار. وهنالك أسباب موضوعية تفسر هذا الفشل، فالمتابع لمجريات التحضير للحوار لم يفاجئه إعلان تعليقه.
ما هي الأسباب الرئيسية لفشل الحوار؟
من أبرز الأسباب، عدم استعداد الجهات الحاكمة للاندراج (الاندماج) في سياق الحوار الوطني ومقتضياته. وبالمقابل فإن تشبث المعارضة من جهتها ببعض المواقف الصارمة أدى إلى توتر أجواء الحوار. أي أن بيئة الحوار لم تكن مهيئة، فقد استنزفت الطبقة السياسية حظوظ نجاح الحوار قبل بدء الحوار نفسه، إذ أن الأرضية والثقة التي يمكن أن تقود لنجاح المصالحة الوطنية، لم تكن موجودة.
ناهيك عن أجواء الحوار، فإن النقاش بين الأطراف في صلب القضايا المطروحة، لم تكن مثمرة، حيث وصلت المحادثات حول اختيار شخصية مستقلة لرئاسة الحكومة، إلى مأزق. لماذا استحال التوصل إلى تفاهم حول اسم معين؟
لقد بدأ التباين بين الأطراف منذ الجلسة الأولى بخصوص إجراءات الحوار، وقد أدى ذلك إلى الانطلاق الفعلي للحوار رغم انطلاقته الرسمية. وفيما يتعلق بالاختلاف حول شخصية رئيس الحكومة المقبلة، فإن الرؤية لخصائص هذه الشخصية كانت قائمة على نظرة خاطئة، حسب رأيي. فقد تم وضع قالب معين لملامح شخصية رئيس الحكومة، ولم يكن من الممكن أن يدخل ضمن هذا القالب، سوى شخصيات تجاوزتها الأحداث ولا تستجيب لمتطلبات المرحلة. فقد وقعت أطراف الحوار نفسها، بشقيها الحاكم والمعارضة، في مأزق هذه المنهجية، مما جعلها تتشبث بآرائها وبالسلطة.
ما هي الأوراق التي بقيت بيد الجهات الراعية للحوار لإنقاذه؟
من يرعى الحوار في تونس يجد نفسه اليوم تقريبا أمام أبواب موصدة. والأوراق المتبقية والإمكانيات محدودة. وحتى مواصلة الحوار بشكل مواز (غير رسمي) رغم تعليقه، هذا يعني أن الحلول البديلة أصبحت ضئيلة جدا. ونأمل أن تعود الأطراف المشاركة في الحوار إلى وعيها وأن تبحث عن اختيارات من شخصيات في نفس النمط الذي وضعته منذ البداية، وقد كانت عبارة عن ديناصورات (سياسية) في عداد الانقراض.( الشخصيات التي تم تداول أسمائها لشغل منصب رئاسة الحكومة تفوق أعمارها الثمانين عاما).
حمه الهمامي زعيم الجبهة الشعبية (يسار) المعارضة يقول إن حزب النهضة الحاكم يتمسك باسم أحمد المستيري لأنه(حزب النهضة) يريد ضمان بقائه في السلطة، ومن جهته راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة الإسلامي، يقول إن المعارضة ترفض المستيري لأنها تريد شخصية أقل استقلالية؟ كيف تقيم هذه المبررات، وما هو المخرج برأيك؟
حزب النهضة كان واضحا منذ البداية، أن الحكومة التي ستنبثق عن الحوار الوطني ينبغي أن تكون حكومة للإعداد للانتخابات، ويعني ذلك أن مدة ولاية الحكومة تكون قصيرة وصلاحياتها محدودة. ومن هنا يكون منظور "النهضة" لاختيار شخصية تتولى الحكومة تؤمِن عملية إعداد الانتخابات دون الخوض في مسائل هيكلية وإصلاحات عميقة، وهو ما يفسر اختيار حزب النهضة لشخصية المستيري. وفي المقابل فان المعارضة تنطلق من رغبتها في إصلاح عملية الانتقال الديمقراطي وبعث نفس جديد في نسق العمل الحكومي، وبالتالي فهي ترى أن الحكومة لا ينبغي أن تكون مجرد حكومة للإشراف على الانتخابات.
ومن هنا يبدو البون(الفرق) شاسعا في رؤية أطراف الحوار التي لم تتوصل إلى قاسم مشترك.
واعتقد أن الخيار الوحيد المطروح الآن، يقوم على النقاط التالية. أولا، أن يتم اعتماد خارطة الطريق بشكل ملزم لكل الأطراف. وثانيا، انخراط جميع الأطراف في مسار مصالحة وطنية على أساس خارطة الطريق، لأنه لابد من تنقية الأجواء، خصوصا في ظل تعثر مسار العدالة الانتقالية.
ماهي برأيك المعايير البديلة لاختيار شخصية رئيس الحكومة، للخروج من المأزق الذي وصلت إليه الأطراف نتيجة المنهجية السابقة؟
أوضح بداية أنني لا أريد الانتقاص من قيمة الرموز(شخصيات رمزية) السياسية التي وقع تداول أسمائها، بل يتعين البحث عن النجاعة. فالمرحلة تقتضي الكفاءة والحياد والنزاهة. وهذه الشروط تتوفر في كوكبة من الكفاءات والخبرات التونسية في مختلف الميادين.
بما فيها عنصر الشباب الذي يبدو غائبا في اقتراحات الأحزاب لرئاسة الحكومة؟
أجل، ثورة تونس كانت ثورة شباب، والتونسيون يتطلعون إلى وجوه جديدة، فلا أحد ولد ليكون وزيرا، بل الجميع يتعلم تحمل المسؤولية بمن فيها النخب التي تداولت على المسؤولية منذ استقلال البلاد.
والآن هنالك حقائق ومعطيات جديدة وأجيال وتطلعات جديدة، وعندما نضيق في معايير الاختيار نقع في إقصاء معظم فئات المجتمع التونسي وخصوصا الكفاءات منها. ومن سيتحمل المسؤولية على أساس معايير إقصائية فستكون مشروعيته مهتزة لدى الشعب التونسي، وهو ما يتعارض مع منطلق المشروعية التوافقية التي نحن بصدد بنائها كبديل عن المشروعية الانتخابية.
إلى أي حد ساهمت تطورات الأوضاع دراماتيكيا في مصر، في تعقيد مجريات الأزمة السياسية في تونس، وما هي، برأيك، سيناريوهات تطورات الأمور في تونس، هل ستقبل البلاد على مزيد من تصعيد التوتر أم ربما يحدث انقلاب عسكري أم ماذا؟
احتمال حدوث انقلاب يبقى سيناريو مستبعد في الوقت الراهن. أما سيناريو التصعيد في الشارع فهو وارد، ولاسيما في سياق التوتر الذي حدث أمس في مداولات المجلس التأسيسي بصدد تعديل بعض البنود المتعلقة بتقليص صلاحيات رئيس المجلس... وهو أمر أثار غضب المعارضة وامتعاض حزب التكتل من أجل الحريات الشريك في الحكم (يرأسه مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي). وقد هددت المعارضة( العائدة للمجلس بعد الانسحاب) بالانسحاب مجددا من المجلس التأسيسي.
إلى أي حد يشكل المجلس الوطني التأسيسي ضمانة لاستقرار المؤسسات الدستورية في البلاد، في ظل حكومة ولايتها شبه منتهية، ورئيس جمهورية بصلاحيات محدودة؟
كانت للمجلس التأسيسي إمكانية تشكيل ضمانة، ومازالت لديه هذه الإمكانية، لو لم يهتز هو نفسه بفعل التوترات والانسحابات والانشقاقات، الأمر الذي جعل المؤسسات الدستورية الرئيسية المنبثقة عن المجلس التأسيسي، وأعني بها الحكومة ورئاسة الجمهورية، أصبحت غير قادرة على بعث رسائل الثقة والاستقرار السياسي.
ولماذا فشل ايضا، اقتراح تقدم به نجيب الشابي زعيم الحزب الجمهوري (يسار وسط)، يقضي بدمج الشخصيات المقترحة في تركيبة رباعية لرئاسة الحكومة، أي تعيين المستيري ومعه الأسماء الثلاثة الأخرى (اقترحتهم المعارضة) كمساعدين؟
هذا الحل غير عملي، لأننا رأينا في الواقع الأزمة التي آلت إليها وضعية السلطة الثلاثية المنقسمة، عبر تقاسم أحزاب الائتلاف الحاكم الثلاثة رئاسة المجلس التأسيسي والحكومة ورئاسة الجمهورية. فكيف ستنجح حكومة سلطة رئاستها مقسمة بين شخصيتان أو ثلاثة أو أكثر. واعتقد أن منطق توزيع السلطة لا ينجح، ويتعين البحث عن صيغة سلطة واحدة، سواء تحدثنا عن السلطة التنفيذية أو التشريعية، بهدف تحقيق الفعالية والنجاعة. واعتقد أن المشكل يكمن أيضا في تصورات السياسيين المنقوصة للبدائل.
هل تقصد أن الطبقة السياسية أظهرت عجزا وحدودا في اجتهاداتها وخيالها السياسي في مواجهة الأزمة السياسية؟
نعم أظهرت الطبقة السياسية التونسية حدودا، ولكنها أظهرت أيضا العديد من الحسابات السياسية الضيقة. ومن جهة أخرى لا ينبغي أن نتجنى على النخب السياسية التونسية لأنها حاولت إيجاد حلول سياسية بديلة، لكن هذه الحلول غير ناجعة بل ستساهم في تعميق الأزمة.
هل إن تونس بمنآى عن حدوث صراع ومواجهة سياسية تؤول بالأوضاع إلى السيناريو المصري؟
نأمل أن لا تؤول أوضاع تونس إلى صراع شبيه بما حدث في مصر. واعتقد ان الديناميكيات السياسية الموجودة في تونس قد تحميها من هذا المنزلق الخطير، لكن اذا تفاقمت الأزمات وفي ظل المشكل الأمني الخطير القائم وغياب تصور حقيقي لمعالجة القضايا الأمنية وغياب القدرة السياسية على معالجة المسألة الأمنية فان الأمر يبقى واردا.
أجرى الحوار منصف السليمي