مجلة ديرشبيجل في عيدها الستين - درع إعلامي لحماية الديمقراطية الألمانية
٤ يناير ٢٠٠٧كُتب لمجلة "دير شبيجل" الشهيرة أن ترى النور في الرابع من يناير/ كانون الثاني 1947، مؤذنة بولادة إعلام ألماني جديد من رحم ويلات الحرب العالمية الثانية. كان تأسيس هذه المجلة الأسبوعية في بداية الأمر مغامرة وتحديا، لكنها سرعان ما حظيت بثقة القارئ الألماني، لتصبح شاهدا على أحداث تاريخية مفصلية. كما أنها لعبت دورا مهما في إعادة رسم الخريطة الإعلامية الألمانية، بوصفها مدرسة إعلامية أخذت على عاتقها نشر الثقافة النقدية وتجسيد مهام الإعلام الحر بصفته "السلطة الرابعة".
قصة ميلاد المجلة وتطوره
لقد كان رودولف أوجشتاين صاحب فكرة تأسيس هذه الأيقونة الإعلامية، فقد وضع حجر الأساس لها في مدينة هانوفر، وقد كان آنذاك له من العمر ثلاثة وعشرون. فبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، عاد أوجشتاين إلى مدينة هانوفر، حيث اتصل بالضابط البريطاني، جون سايمور، المسؤول عن استصدار التراخيص الخاصة بالصحف، فما كان من هذا الضابط إلا وقد بارك هذه الخطوة، بوصفها لبنة مهمة في ترسيخ دعائم الديموقراطية في ألمانيا الحديثة.
وفي عام 1952 انتقلت المجلة من مدينة هانوفر إلى مدينة هامبورغ، في شمال ألمانيا، وهو الأمر الذي شكل نقلة نوعية أيضا في حياة المجلة ورئيس تحريرها ومؤسسها، إذ أصبحت مثالا للنجاح والعمل الصحفي، لما احتوته من موضوعات متنوعة في السياسة والثقافة والاقتصاد ولما فيها من دقة في الرصد وعمق التحليل. كما واكب هذا الانتقال ارتفاع حجم توزيع أعدادها، ليصل إلى 121.000 عدد بعد سنوات قليلة. وقد جاء هذا النجاح الكبير نتيجة مباشرة للجهود التي قام بها أوجشتاين وعمله الدؤوب على جعل هذه المجلة أن تبقى رائدة في مجالها وصرحا إعلاميا بارزا، يسعى إلى الحقيقة والمعرفة. وفي هذا السياق يقول شتيفان آوست، رئيس التحرير الحالي للمجلة: "هذه المجلة أداة إعلامية فاعلة، لها اسمها وحضورها وتقاليدها الخاصة بها."
فضيحة عام 1962 نقطة تحول كبرى
محطات مختلفة ومواقف تاريخية متعددة رافقت ميلاد وتطور مسيرة مجلة "ديرشبيجل"، حيث شكلت فضيحة عام 1962 حدثا بارزا مهما، إذ تقوم هذه الفضيحة على أساس نشر مقالة حول مناورة لحلف شمال الأطلسي، حملت اسم "Fallex 62"، خلصت إلى أن الجيش الألماني يمتلك "قدرات دفاعية محدودة." في ضوء هذا اتهمت حكومة المستشار الألماني الأسبق كونراد آديناور هذه المجلة بنشر معلومات خطيرة، تضر بالأمن القومي الألماني. كما تمت مداهمة مقر المجلة وإصدار مذكرات استجواب بحق عدد من العاملين فيها وإيداعهم السجن على ذمة التحقيق. أثارت حملة المداهمة هذه موجة عارمة من الغضب والاحتجاج، تسببت في أزمة حكومية دفعت بوزير الدفاع آنذاك، فرانس جوزيف شتراوس، إلى الاستقالة. وفي ضوء ذلك، اعتبر أوجشتاين مجلته بأنها "الدرع الحامي للديموقراطية." غير أن دير شبيغل استطاعت أن تخرج منتصرة من هذه المعركة، حيث واصلت مشوارها بأسلوبها الصحفي الاستقصائي والخروج بالقصص المثيرة وكشف قصص الفساد السياسي والإداري والمالي. كما اعتبر العديد من المحللين أن هذه الفضيحة قد أسست لمرحلة جديدة في الإعلام الألماني، حيث أثبتت أنه لا سطوة سياسية على الإعلام في هذا البلد، بل هناك ضوابط تنبع من أخلاقيات العمل الصحفي.
التكيف مع مستجدات الإعلام الالكتروني
رغم مرور عدة عقود على تأسيس مجلة "ديرشبيجل"، إلا أنها استطاعت أن تتكيف مع المستجدات التقنية في الحقل الإعلامي. فقد جاء إطلاق الموقع الالكتروني لهذه المجلة عام 1994 انسجاما مع رسالتها الإعلامية بمواكبة للعصر وتتويجا لهذه المسيرة المتواصلة من العطاء، إذ يعد هذا الموقع من أكثر المواقع الإعلامية الإخبارية زيارة للناطقين باللغة الألمانية. جدير بالذكر أن حجم مدخولات مؤسسة "ديرشبيجل" الإعلامية وصل العام الماضي إلى 322 مليون أويرو. كما أن جزءا من الأرباح يذهب إلى العاملين، لاسيما وأن أوجشتاين، الذي وافته المنية عام 2002، كان قد أهدى العاملين نصف أسهم هذه المؤسسة الإعلامية. وتضم مؤسسة شبيجل اليوم حوالي 867 عاملا، حوالي 400 في أقسام التحرير المختلفة و110 في الأرشيف و360 في أقسام الدعم اللوجستي والفني.
ورغم مسيرة النجاح هذه، إلا أن هناك العديد من الأصوات المنتقدة لسياسات المجلة الحالية تحت قيادة شتيفان آوست. فقد عبرت ابنة أوجشتاين، فرانسيسكا، عن "امتعاضها من تراجع دور المجلة الإعلامي الريادي النقدي." كما أضافت: " لقد غدت ديرشبيجل في أيامنا هذه واحدة كغيرها من المجلات الأخرى، ولم تعد لها تلك الخصوصية." ومهما يكن من أمر، فإن "ديرشبيجل" سواء اختلف المرء معها أم اتفق تظل عنصرا فاعلا في صياغة وصناعة الرأي العام، فقد خطت اسمها على الساحة الإعلامية بحروف الحقيقة والإثارة وشكل ميلادها وتطورها مفصلا هاما في المشهد الإعلامي الألماني، فتعدت أكثر من مقدس وكسرت أكثر من حاجز مهني وسياسي، لتؤسس لإعلام حر، يقدس حرية الكلمة والرأي.