مراكش ـ أول عاصمة ثقافية للقارة الأفريقية عام 2020
٢٦ ديسمبر ٢٠١٩الضوضاء تعم كل مكان وجمع من البشر واللغات والروائح: ويبدو أن النداء ينطلق من أكبر منصة في مراكش يرحب من خلالها بالزائر؛ ساحة جامع الفنا، قلب مراكش النابض الواقع في وسط المدينة القديمة مبني في شكل متاهة تلتهم الزائر الجديد. المهرجون وبائعو التوابل والتحف الفنية المغربية يتنافسون من أجل جلب اهتمام المارة. وفي وسط هذا المشهد بعض القردة الذين يُستخدمون في أخذ صور تذكارية مع السياح ومروضو الأفاعي يدفعون الكوبرا إلى الرقص.
ومنذ قرون من الزمن يحاول هنا الحكواتيون بأساطير وحكايات قديمة جلب الزوار ـ وهو فن يواجه اليوم الاندثار. وساحة جامع الفناء التي كانت تُعرض فيها رؤوس السجناء المقتولين مكان تلاقي المضاداة، كما يقول المؤرخ أحمد سكونتي:" هذا المكان له سمعة ساحة الإعدام وساحة الاستعراضات العسكرية واستعراض القوة في مختلف حقب التاريخ المغربي. وهذه الساحة كان لها دوما سمعة مثيرة للجدل بين سكان مراكش. وحتى القرن الـ 20 كانت الصورة سلبية: كانت الساحة مكان التعفن حيث تنطلق الحريات وتعم لغة فاسدة وتُحكى نكت قبيحة. مكان للممارسات وأشخاص منبوذين".
وهذه الأوصاف بالذات جعلت من جامع الفنا نقطة لقاء، كما يقول سكونتي:" إنه في آن واحد مكان الاندماج الذي استمر حتى القرن الـ 20 ـ مجموعات مختلفة ولغات وتقاليد وثقافات تلاحمت فيما بينها هنا ـ وهذا ما قدم نكهة لمدينة مراكش".
وتعد ساحة جامع الفنا والمدينة القديمة إرثا ثقافيا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة(اليونسكو)، وهذا أيضا سبب في وقوع الاختيار على مراكش كأول عاصمة ثقافية افريقية، كما تفيد عواطف البرادعي التي هي من اللجنة التي سترافق البرنامج الثقافي لمراكش. "مراكش كانت دوما واحة في المغرب والغرب وجنوب الصحراء. إنها مدينة عجيبة بفضل جمالها الطبيعي ـ ولدينا هنا تنوع كبير في النباتات. ولدينا الصحراء والثلوج".
وتم اختيار مراكش كأول عاصمة ثقافية أفريقية، لأن المدينة تُعد نافذة لأفريقيا الحضرية المعاصرة وتمثل في آن واحد تنوع الثقافة الأفريقية. وطوال 2020 ستعكس العديد من المعارض والمهرجانات وفعاليات أخرى هذه الواجهة. ومراكش تجتذب سنويا ملايين الزوار من العالم ـ والسياحة تُعد من الفروع الاقتصادية الهامة.
وهذا تحول أيضا إلى مشكلة، لأن مراكش تزدهر مثل أسعار العقار. وهذا لا يعود فقط إلى العدد الكبير من السياح الذين يرغبون في المبيت في المدينة القديمة، بل للأجانب والمغاربة الأثرياء الذين اشتروا بيوتا فيها. فسكان مراكش العاديون يعيشون من ازدهار المدينة ويعانون منه في الوقت نفسه.
ومن المدينة القديمة، صلب مراكش الشرقية والتقليدية لا تفصلنا إلا خطوات قليلة من الحداثة. فحتى الفن الطليعي يجد في الأثناء موطنا له في مراكش: ففي الجانب الآخر من أسوار المدينة توجد قاعات العروض والمحلات الجميلة ومتاجر الفنون. أمين بندريوش يمثل هذين العالمين لأنه يجمع بين اللباس التقليدي المغربي والنماذج الساطعة بتصاميم مستقبلية. وأمين مصمم شاب ناجح وحاصل على العديد من الجوائز، وهو يبيع في الأثناء قطعه الفنية في نيويورك وباريس والدرالبيضاء ويعمل لصالح أكبر المصممين في المغرب.
ويقول بأنه تعلم الخياطة من جدته. وظهر حبه للموضة عندما كان يجلس مع عائلته أمام التلفاز: "لقد ترعرعت في جوار حدائق ماجوريل، ومن ثم علمت أنها تعود لملكية مصمم الموضة الشهير إيف سان لوران الذي شارك في استعراض للقفطان في مراكش وكانت له مجموعة أزياء. وتلك هي المرة الأولى التي تعرفت فيها مباشرة عبر التلفزة على فنه، وعندما انصب اهتمامي لاحقا على التصميم كان بديهيا أن أهتم بفنه".
وكان المصمم الفرنسي بالنسبة إليها إلهاما وداعما للثقافة في المغرب. وحدائق ماجوريل الشهيرة اكتشفها إيف سان لوران وصديقه بيير بيرجي كواحة تستحق الإنقاذ من التلف، وهي مفتوحة اليوم في وجه الزوار ـ أكثر من 800.000 شخص يزورونها سنويا. وفي 2017 تم تدشين نصب تذكاري في مراكش لإيف سان لوران حيث افتتح متحف على شرفه بمشاركة زوجة الملك لالة سلمى التي ظهرت بلباس من تصميم الفنان الراحل.
وبعد شهور يتم تعويض الملابس الأصلية بأخرى من أجل حمايتها ويتمكن الزوار من اكتشاف أشياء جديدة. وهنا يتعدى الأمر عالم الموضة، كما يقول مدير المتحف بيورن دالشتروم الذي يؤكد على المحيط الذي نشأ فيه ذلك الفن. فإيف سان لوران عشق مراكش، إذ أنه الفنان الوحيد الذي يرتبط اسمه بالمدينة. "المدينة منحت إيف سان لوران الإلهام الضروري. إنها مكان للعيش والعمل بالنسبة إلى الفنان الذي يبقى إلى حد ما ابن المغرب، وأعتقد أن المراكشيين يربطون أشياء به".
والمتحف تم تصميمه بالتالي كموقع لقاء للناس والثقافات، كما يقول المدير دالشتروم. وعلى مساحة 4000 متر مربع يوجد متسع لقاعة معارض ومكتبة للبحث وقاعة محاضرات.
ومراكش هي أيضا مدينة الموسيقى. في جامع الفناء أو أثناء المهرجانات الموسيقية المتعددة، فالمدينة ليست أبدا هادئة. وفي المساء في قاعة مهرجانات في مراكش تعزف فرقة من إسرائيل فوق المنصة. والمغنية نيتا الكايام تغمض عينيها في الوقت الذي تغني فيه، وهي ترتدي لباسا مغربيا يهوديا تقليديا. والمغنية تثير في أغانيها الوطن المفقود والحنين بالدارجة المغربية. "إنها كانت لغة طفولتي. ترعرعت بالقرب من جدتي التي كانت ترمز دوما إلى مكان عجيب وغريب. لقد كانت مختلفة بالنسبة إلي ولا أعرف لماذا. لم تتحدث العبرية جيدا. وما كان يربطها مع جيرانها المغاربة في الحي هي الدارجة ـ وكبُرت في هذا الحضن".
وقد سافرت المغنية الإسرائيلية إلى مراكش للمشاركة في مهرجان سينمائي، وهي تلعب في فيلم دورا رئيسيا. ففي هذا الفيلم الوثائقي تنطلق نيتا الكايام من اسرائيل بحثا عن جذورها المغربية. وسافرت إلى تنغير، المدينة الأصلية لوالديها. ونيتا الكايام تبحث عن وثائق لأجدادها الميتين في الإدارات المحلية وتطرق أبواب الجيران.
وتعيش نيتا الكايام في القدس وهي وُلدت في إسرائيل. وأجدادها ينحدرون من الدرالبيضاء ومن تنغير في جنوب شرق المغرب. ومع تأسيس دولة إسرائيل هاجروا في الخمسينات على غرار الجزء الأكبر من المغاربة اليهود. وهذه التجارب والحنين توظفها نيتا للغناء لمد الجسور بين أجدادها وحياتها الخاصة.
دنيا صدقي/ م.أ.م