مساعدات مشروطة.. ماذا وراء النهج السعودي الجديد؟
٣١ يناير ٢٠٢٣منذ عقود، دأبت السعودية، أحد أكبر مصدري النفط في العالم، على تقديم مساعدات ومنح لبلدان عديدة في منطقة الشرق الأوسط وفي آسيا من أجل دعم حلفائها وتعزيز نفوذها الخارجي. وكانت معظم المساعدات في صورة منح مباشرة وودائع مصرفية غير مشروطة.
بيد أن هذا النهج يبدو في طريقه للتغيير، وفقا لما جاء على لسان وزير المالية السعودي محمد الجدعان خلال مؤتمر دافوس الاقتصادي في سويسرا في 18 يناير/ كانون الثاني. إذ قال الجدعان "إننا اعتدنا تقديم منح ومساعدات مباشرة من دون شروط، ونحن نغير ذلك. نعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف لنقول بالفعل إننا بحاجة إلى رؤية إصلاحات. نفرض ضرائب على شعبنا ونتوقع من الآخرين فعل الأمر نفسه وأن يبذلوا جهداً. نريد المساعدة لكننا نريد منكم الاضطلاع بدوركم".
ومنذ سنوات، تعد السعودية أكبر داعم منفرد لمصر، حيث قدمت مساعدات في السابق للقاهرة في شكل ودائع ومنح وإمدادات طاقة. لكنها مؤخرا وسعت تركيزها ليشمل الاستثمارات مثل دول الخليج الأخرى لا سيما الإمارات وقطر.
ولا يتوقف الأمر على بلدان الشرق الأوسط، بل تدخلت الرياض للمساعدة في استقرار باكستان وسط أزمة اقتصادية حادة تعصف بالبلاد خاصة مع تراجع الاحتياطيات الأجنبية وخسائر متلاحقة طالت عملة البلاد.
من المساعدات إلى الاستثمار
تزامن هذا مع تخطيط صندوق الاستثمارات العامة السعودي، وهو صندوق سيادي مملوك للدولة، إلى استثمار 24 مليار دولار في ست دول عربية. وجاء في بيان للصندوق أنهسيؤسس شركات في العراق والأردن والبحرين وسلطنة عمان والسودان، لضخ استثمارات في قطاعات تتراوح من البنية التحتية والرعاية الصحية إلى التمويل والغذاء.
وقد دشن الصندوق هذه العملية في أغسطس/ آب من خلال إنشاء شركة استثمارية في مصر، حيث أنفق بالفعل 1,3 مليار دولار لشراء حصص في أربع شركات.
وذكرت وسائل إعلام سعودية رسمية، في وقت سابق من شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، أن المملكة سوف تعزز استثماراتها في باكستان إلى عشرة مليارات دولار بدلا من مليار أُعلن عنه في أغسطس/ آب الماضي.
بدورها، ترى كارين يونغ، الباحثة البارزة في مركز كولومبيا لسياسة الطاقة العالمية، أن هناك تحولا "في شكل المساعدات السعودية والخليجية بشكل عام وسياسة التدخل المالي منذ عام 2011، خاصة مع بعض الخبرات التي اكتسبتها السعودية في مصر عام 2016".
وفي مقابلة مع DW عربية، قالت الباحثة والتي نشرت مؤخرا كتابا تحت عنوان " النظام الاقتصادي لدول الخليج العربي"، إن تصريح وزير المالية السعودي لم يكن بالأمر المفاجئ. وأضافت "نحن نتوقع بشكل متزايد لجوء (السعودية) إلى الاعتماد على الاستثمار واستخدام الأدوات المالية بدلا من التحويلات النقدية المباشرة والمساعدات الإنمائية الرسمية".
ويتفق في هذا الأمر أندرو هاموند، الباحث في جامعة أكسفورد ومؤلف كتاب "اليوتوبيا الإسلامية: وهم الإصلاح في السعودية". وقال في مقابلة مع DW عربية "سئمت القيادة السعودية من اعتبار الرياض آلة نقديةلأسباب مختلفة، سواء إقليمية أو دولية. ويتناسب (الإعلان الجديد) مع سياسة رؤية 2030 لترتيب الشؤون المالية للمملكة".
سخاء المساعدات
الجدير بالذكر أن السعودية ودولا خليجية أخرى تتنافس لتعزيز نفوذها الاقتصادي في دول مثل مصر منذ سنوات. فيما شمل سباق التنافس دولا تعصف بها أزمات اقتصادية مثل تركيا. وعلى وقع ذلك، قامت دول الخليج الثرية بضخ استثمارات في هذه الدول بشكل كبير في فترة اعتبرتها صحيفة فايننشال تايمز البريطانية بأنها تمثل "موسما للتسوق".
وتظهر الأرقام المنشورة على الموقع الإلكتروني لـ "منصة المساعدات السعودية" التي تشرف عليها الحكومة أن الرياض قدمت أكثر من 84,9 مليار دولار على شكل مساعدات للعديد من دول العالم، وقد احتلت اليمن المرتبة الأولى بأكثر من 20,8 مليار دولار ثم مصر بما يتجاوز 13,7 مليار دولار ثم باكستان بأكثر من 7 مليارات دولار. وقدمت السعودية أيضا مساعدات لدول أخرى في الشرق الأوسط من بينها لبنان بلغت 2,8 مليار دولار وأيضاتونس بنحو 1,6 مليار دولار خاصة في شكل مشاريع إنسانية وتنموية.
ووفقا لبيانات نشرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن جُل المساعدات الإنمائية الرسمية المقدمة من السعودية خلال عام 2020 كان في الشرق الأوسط وأفريقيا، إذ جرى تخصيص 650,7 مليون دولار للشرق الأوسط و 581,4 مليون دولار لأفريقيا.
المزيد من الضغوط المالية
وفي ظل الدعم المالي الذي قدمته السعودية لدول في المنطقة لاتزال تئن تحت وطأة أوضاع اقتصادية صعبة مثل مصر ولبنان وتونس، فإن آلية "ربط المساعدات بشروط" من شأنها أن تزيد الضغوط على هذه البلدان.
ويرى اقتصاديون أن هذا الدعم المالي السعودي عبر ودائع مصرفية لا يصب فقط في صالح دعم هذه البلدان بشكل مباشر، وإنما يمتد إلى تحسين صورة اقتصاداتها أمام المنظمات المالية الكبرى خاصة تعزيز قدرتها على سداد الديون وجذب الاستثمارات الأجنبية.
فعلى سبيل المثال، أودعت السعودية العام الماضي مجددا وديعة بقيمة 5 مليارات دولار في البنك المركزي المصري، فيما قالت الرياض مطلع العام الجديد إنها تدرس زيادة سقف الودائع في البنك المركزي الباكستاني إلى خمسة مليارات دولار.
وفي هذا السياق، قال هاموند إن مثل هذه المساعدات تُستخدم "كجزء من جهد أوسع للتأكيد على أن (هذه الدول) لا يزال بإمكانها الحصول على قروض من البنوك الكبرى والاستثمارات الأخرى.”
رسالة إلى الداخل السعودي
لكن إعلان السعودية على لسان وزير ماليتها أن "زمن المساعدات والمنح غير المشروطة قد ولى" يحمل في طياته رسالة إلى الداخل السعودي، وفقا لما ذكرته كريستين سميث ديوان، الباحثة البارزة في معهد دول الخليج العربية ومقره واشنطن.
وفي مقابلة مع DW عربية، قالت "ربما تخشى القيادة السعودية أيضا من رد فعل عنيف من مواطنيها الذين لا يرغبون في قراءة تقارير جديدة تفيد بعمليات تحويل ضخمة للأموال (السعودية) إلى دول أخرى دون أي مساءلة، في وقت تقوم فيه السلطات بفرض المزيد من الضرائب والرسوم عليهم".
تعزيز النفوذ السياسي للسعودية؟
ورغم ذلك، يرى خبراء أن الإنفاق السعودي "السخي" في شكل مساعدات ومشاريع إنسانية قد ساعد في تعزيز النفوذ السعودي في بلدان عديدة في الشرق الأوسط. حيث أبدت الرياض اهتماما كبيرا بالنفوذ السياسي في هذه الدول، حتى لو جاء ذلك على حساب إمكانية إبرام صفقات تجارية مربحة.
ويعتقد أندرو هاموند أنه في ضوء ذلك سيكون من الصعب على الحكومة السعودية والعائلة الحاكمة "التخلي عن العادات القديمة" في تقديم المساعدات والدعم المالي وحصر الأمر على تقديم "منح ومساعدات مشروطة". وقال "في هذه الحالة، لن يكون للسعودية النفوذ والدور القيادي، الذي مازالت تتوق إليه، إذا لم تنفق الأموال. لأن هذا في الأساس كل ما يريده معظم (الحلفاء) منها. وإذا كان حكام السعودية يرغبون في أن يكون لديهم رأي في السياسة الخارجية المصرية أو الباكستانية، وهو الأمر الذي تحقق بالفعل، فسوف يتعين عليهم الحفاظ على تدفق الأموال".حسب هاموند
يشار إلى أن السعودية بدأت مؤخرا في مساعي تحقيق توازن أكبر في علاقاتها مع القوى العالمية، فيما بات مبدأ "السعودية أولاً" ركيزة سياستها الخارجية بما يشمل، وفقا لوسائل إعلام سعودية، مملكة أكثر طموحا وجرأة على الساحة الدولية واتباع أجندة تراعي مصالحها.
ورغم تأكيد الباحثة كريستين سميث ديوان على أن النهج السعودي الجديد في تقديم المساعدات "سوف يوفر مساحة أكبر للتنسيق" مع الحكومات الغربية والمؤسسات متعددة الأطراف، إلا أنها ترى أن السعودية سوف تواصل الدعم المالي بشكله التقليدي.
وأوضحت ذلك، بقولها "أشك في أن حكام السعودية سوف يتنازلون عن النفوذ السياسي والمالي الذي وفرته لهم أشكال المساعدة المباشرة. نحن في لحظة قومية تقوم على أساس مبدأ: السعودية الأولى. فيما تعد ميزانيات الدولة التي تغذيها عوائد النفط مصدرا كبيرا لهذا النفوذ والاعتراف الدولي الذي تسعى السعودية إلى تحققه."
محمد فرحان