مسجد "مولانا" بكونستانس: واحة للحوار وقبلة سياحة المآذن
٤ ديسمبر ٢٠١٠اليوم هو يوم جمعة، وبالرغم من تساقط الثلوج الليلة الماضية وبلوغ درجات الحرارة هذا النهار الصفر المئوي تقريباً، يتجمع نحو مائة شخص من كافة الفئات العمرية أمام مسجد أبيض الجدران، تزين سقفه قبة داكنة اللون، وترتفع إلى جانبه مئذنة تطلّ على النهر. الساعة تقترب من وقت الظهيرة، والجميع يتجاذبون أطراف الحديث. أقترب منهم لأسمع مزيجاً من اللغات، تغلب عليه الألمانية.
تتويج لحوار الأديان في المدينة
هذا هو حال كل يوم جمعة أمام مسجد "مولانا" بمدينة كونستانس، الواقعة على الحدود الألمانية السويسرية، فالمسجد يجذب الكثير من المسلمين ذوي الأصول المختلفة، لكن الأغلبية هنا عبارة عن الجيل الثاني أو الثالث من العمال الأتراك الذين استقدمتهم ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
يعيش في كونستانز نحو 4500 مسلم، أكثر من نصفهم أتراك. لهذا ترعى جمعية "الطائفة الدينية التركية الإسلامية" أو (ديتيب) المسجد وتقوم على تعيين إمام المسجد وخطيبه.
ويقول كربان آراس من مجلس إدارة ديتيب في كونستانس إن قرار بناء المسجد بصورته الحالية تم اتخاذه عام 2000، بعد نقاش مع ممثلي الكنيسة المسيحية في المدينة، مضيفاً: "نحن نشعر بأننا ألمان، ونحن حديثون في البلاد، وشبابنا باقون هنا. لذلك أردنا أن نبني لهم مسجداً، يتسع لهم ولمتطلباتهم الثقافية والدينية. المسجد القديم كان عبارة عن مبنى عادي، يتكون من غرفتين، وكثير من الشباب لم يستطع التردد عليه".
بالتنسيق مع الجمعيات الدينية المسيحية، وبعد فحص عدد من المواقع الملائمة لبناء المسجد، يروي آراس أن الاختيار وقع على المكان الحالي، الذي يطلّ على منبع نهر الراين في المدينة، ويقع على الشارع الرئيسي. المشاورات مع السكان الألمان أفضت إلى قرار بناء المئذنة التي يبلغ ارتفاعها 34 متراً. وبعد بناء المسجد نظمت الجالية المسلمة جولات في المسجد لعدد من وفود المدارس والمؤسسات الدينية وبلدية كونستانس.
المسجد وسيلة لتبديد الخوف من الإسلام
هذا الجوّ السلمي والمتناغم ساد فترة ما قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. لكن عقب هجمات تنظيم القاعدة الإرهابي شهدت الفترة التي أعقبتها مباشرة – كمعظم مناطق العالم –مظاهر سلبية، كما يوضح كربان آراس، لكنه يستدرك بالقول: "مع الوقت تلاشت كل الأحكام المسبقة، بفضل الحوار المستمر مع المنظمات المسيحية واليهودية، واليوم يأتي الجميع إلينا بكل سرور".
إمام المسجد وخطيبه، إسماعيل توبراك، يتدخل هنا معقباً: "بالطبع هناك مرافق أخرى تجذب سكان المدينة إلى المسجد أيضاً، مثل السوبرماركت والمطعم الملحق بالمسجد، والمكتبة، والنادي الثقافي، ومركز المرأة، وفي المسجد يجتمع الكثير من النواحي الدينية والمعيشية". علاوة على ذلك تتبادل الجالية المسلمة والمسيحية الزيارات والتهاني في عيد الفطر وعيد الميلاد من أجل تعزيز الحوار والاندماج.
الإمام توبراك ليس الإمام الثابت لمسجد "مولانا"، فبالإضافة إلى كونه صاحب شركة للتمديدات الصحية، التي تأخذ الكثير من وقته، يترأس الجالية الإسلامية في مدينة سالم على ضفة الراين الأخرى، وهو يشغل منصب إمام مسجد مولانا، نيابة عن الإمام الدائم لدى غيابه، مثلما حصل لدى توجهه إلى الحج هذا العام. ويلقي توبراك خطبة الجمعة باللغتين التركية والألمانية، ما زاد في عدد المترددين على المسجد من الأصول الأخرى.
قبلة لسياح المآذن من سويسرا
تلقى إسماعيل توبراك تعليمه كإمام وخطيب في تركيا، ويعيش في ألمانيا منذ أكثر من 30 عاماً، لكنه يلاحظ في الآونة الأخيرة ازدياد عدد القادمين من سويسرا – التي لا تبعد أكثر من كيلومترين عن كونستانس – لزيارة المسجد، وهم إما مسلمون يأتون للصلاة هناك، أو غير مسلمين ليتعرفوا على الإسلام ورؤية ما هي المئذنة بالضبط.
في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي صوتت غالبية طفيفة من سكان سويسرا لصالح قانون يحظر بناء أي مئذنة، مما يعني أن عدد المآذن هناك سيبقى أربعاً لفترة طويلة.
ويضيف كربان آراس: "يوجد بين زارونا هنا في المسجد من لم يعرفوا ما الذي تعنيه المئذنة، وبعد أن سمعوا بوجود مسجد بمئذنة في كونستانس، بدأوا بالقدوم إلى هنا لرؤيتها، وللتعرف على الدين الإسلامي. كل هذا حصل بعد أن صوت هؤلاء السويسريون لصالح حظر بناء المآذن! لقد تحول الأمر إلى سياحة مآذن".
توبراك يعلق على هذا الأمر بالقول: "لقد انتشر الخوف من الإسلام في وسائل الإعلام، وفي خطابات قادة الأحزاب اليمينية المتطرفة في سويسرا، وهو ما دفع الناس هناك إلى التصويت لصالح حظر المآذن. لذلك أراد البعض أن يتعرفوا على الشيء الذي صوتوا ضده. لكن كثيراً من المسلمين – وأنا منهم – نأتي بشكل مستمر إلى مسجد مولانا، لأننا نرغب في أداء الصلوات في مسجد على صورته الأصلية، بقبة ومئذنة".
أغادر المسجد وألاحظ أن نظرات الألمان المارة لا تحمل رهبة أو خوفاً. بعض التلاميذ العائدين إلى منازلهم بعد انتهاء اليوم الدراسي يعرجون على السوبرماركت ليتزودوا ببعض المرطبات أو ما يأكلونه لحين تناولهم طعام العشاء. في نفس الوقت يصدح مكبر الصوت في المسجد بآذان العصر. المراهقون الألمان لا يلقون بالاً وينشغلون بالحديث والضحك. أسألهم عن سبب اختيارهم للشراء من سوبرماركت المسجد. أحدهم يردّ بكل عفوية: "بضاعتهم جيدة، وهم ودودون. أنا أشتري هنا دائماً، الآذان لا يزعجني".
رؤية الشباب وهم يأكلون ويشربون تشعرني بالعطش... آخذ برأي الشاب الألماني، وأعود إلى المسجد لشراء بعض المرطبات، قبل أن أتوجه إلى موعدي المقبل.
ياسر أبو معيلق
مراجعة: منى صالح