مكافحة التغير المناخي..الاقتصاد جزء من الحل أم من المشكلة؟
٢٩ أكتوبر ٢٠١٧علم الاقتصاد ليس علماً دقيقاً، إلا أن السياسيين يتوقعون من خبراء الاقتصاد أكبر قدر ممكن من الإجابات الدقيقة على أسئلتهم حول التغير المناخي. وعلى وجه التحديد الأسئلة التالية: كم يبلغ حجم الضرر المحتمل؟ وكم تبلغ تكلفة تجنب الضرر أو إبقائه في الحد الأدنى؟ وكان التقرير، المؤلف من 700 صفحة والذي قدمه الخبير الاقتصادي نيكولاس ستيرن نيابة عن الحكومة البريطانية عام 2006 بعنوان "مراجعة ستيرن حول اقتصاديات تغير المناخ" هو التقرير الأكثر شمولاً وتأثيراً في محاولة للعثور على إجابة حتى الآن.
وجاء في تقرير ستيرن أنه "إذا لم نفعل أي شيء"، فإن تغير المناخ يهدد خسارة خمسة في المائة من الناتج الاقتصادي العالمي سنوياً. وبالنسبة للفرضيات الأكثر تشاؤماً، يمكن أن ترتفع الخسارة "إلى 20 في المائة أو أكثر".
ووفقاً لتقرير ستيرن، "فإن تكلفة مكافحة (التغير المناخي)" لا تمثل سوى "حوالي واحد في المائة من الناتج الاقتصادي السنوي العالمي". وبعبارة أخرى، فإن مكافحة التغيرات المناخية تؤتي ثمارها. فيما اتهم بعض الاقتصاديين ستيرن بالمبالغة في تقدير المخاطر والأضرار، إلا أن التقرير لاقى استحساناً أكبر، ما يُفهم منه أن للتغيرات المناخية تكلفة تبرر التحرك السياسي.
نمذجة العالم
ولتقدير التكاليف الاقتصادية، يقوم الاقتصاديون بتصميم نماذج معقدة، تستند على مجموعة وافرة من الفرضيات المتعلقة بالتطورات والتي ستظهر خلال القرون القليلة القادمة. و يوجه الانتقاد لكل واحد من هؤلاء الاقتصاديين، ويوصف إما بأنه متفائل للغاية أو متشائم للغاية.
كيف يتطور سكان العالم؟ كم يبلغ ارتفاع مستوى سطح البحر؟ وما هي تكلفة حماية السواحل؟ كيف تبدو موازنة التكاليف والفائدة عندما يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى استحالة زراعة بعض النباتات في منطقة معينة، ولكنه يمكنها في منطقة أخرى؟ وكيف يمكننا مقارنة الأعباء الحالية مع التكاليف، التي ستحدث في الـ 300 سنة القادمة؟
يعتبر ويليام نوردهاوس، الخبير الاقتصادي في جامعة ييل الأمريكية، إنشاء مثل هذه النماذج فناً. "مجرد إلقاء نظرة على هذه الكتب السميكة التي نشرتها لجنة الأمم المتحدة للتغيرات المناخية - كل هذه المواد التي يصعب فهمها: جدول هنا، وخطط هناك، إضافة إلى بيان ما. إخراج شيء ما من هذا كله يمكن فهمه أو عرضه أو اختباره، هنا يكمن فن خلق النماذج وإنشائها".
وطور نوردهاوس بنفسه بعض النماذج التي تُستخدم على نطاق واسع في تقييم تأثيرات المناخ. وأُعتبر منذ 1975 أحد واضعي هدف الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى درجتين أو ثلاث درجات مئوية، من أجل تجنب الأضرار الأكبر نطاقاً.
كم يجب أن تبلغ تكلفة ثاني أكسيد الكربون؟
من أجل تحقيق هدف خفض درجة الحرارة، بدأ الاقتصاديون بسعر ثاني أكسيد الكربون. كل طن من ثاني أكسيد الكربون الناجم عن حرق الوقود الأحفوري مثل الفحم والنفط والغاز يجب أن يكون مرتبطاً بأسعار معينة. ومع ارتفاع الأسعار، ينخفض الطلب، وهكذا يزداد الضغط لإيجاد مصادر طاقة بديلة.
"كم يجب أن يبلغ الثمن؟"، يسأل نوردهاوس ويستطرد: "دولار واحد؟ عشرة دولارات؟ مائة دولار؟ ألف دولار؟". ويضيف بالقول: "ولهذا الغرض تُستخدم هذه النماذج لتحديد كيفية تأثير سعر الانبعاثات بهدف خفض درجة حرارة الأرض".
وفي مؤتمر المناخ في باريس لعام 2015، اتفق 195 بلداً على الحد من ارتفاع درجة الحرارة إلى أقل من درجتين من دون التعهدات اللازمة لتحقيق هذا الهدف.
بين الطموح والواقع
ويرى عالم الاقتصاد البيئي روبرت مندلسون، الباحث أيضاً في جامعة ييل والذي يعمل عادة بالتعاون مع نوردهاوس، أنه "من أجل الوصول إلى هدف الحد من درجة حرارة الأرض إلى درجتين، يجب أن يصل السعر المبدئي لطن واحد من ثاني أكسيد الكربون إلى حدود 100 دولار". وتوصي لجنة الخبراء التي يرأسها نيكولاس ستيرن وجوزيف ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل، باتباع نفس النهج.
في الواقع يبلغ سعر ثاني أكسيد الكربون أقل بكثير من ذلك، إذ يتراوح بين 5-10 دولارات للطن. في هذا السياق يقول مندلسون: "بهذا السعر يمكنك فقط الحد من ارتفاع درجة الحرارة إلى أربع درجات".
وفيما اعتبر الناشطون البيئيون الأمر بالكارثي، لا يرى مندلسون سبباً كبيراً للقلق، ويقول: "من جانب هناك أضرار، ومن جانب آخر توجد تكاليف للحد من هذه الأضرار. على كل مجتمع بذل الجهود لخفض تكلفة الاثنين إلى أدنى مستوى ممكن". ووفقاً لحسابات مندلسون فإن تكلفة الحد من الأضرار تتضاعف، كلما كان الهدف المناخي أكثر طموحاً.
ويقول مندلسون: "تعتمد تكلفة خفض درجة الحرارة على كمية الوقود الأحفوري التي لا يزال العالم يستهلكها"، ويضيف بالقول: "عند جعل هدف خفض الحرارة ثلاثة أو أربع درجات بدل اثنين، يمكن استخدام المزيد من الوقود الأحفوري، مما يتيح لنا المزيد من الوقت لتطوير مصادر بديلة للطاقة".
ويقول الباحثون من جامعة ييل إن أربع درجات تعد "على الأرجح هدفاً جيداً" ويمكن للجميع الاتفاق عليه. ويوضح مندلسون بالقول: "بحثت طيلة ثلاثة عقود عن حجج علمية لهدف خفض درجة حرارة الأرض بمعدل درجتين ولم أجدها. أين هو الضرر الذي يمكن أن يبرر النفقات الضرورية لهذا الهدف".
من جهته يعارض رئيس البنك الدولي جيم جونغ كيم ذلك، إذ قال على هامش تقديم دراسة عن تقييم التأثيرات المناخية عام 2012: "يمكن ويجب تجنب ارتفاع درجة حرارة العالم ووصولها إلى أربع درجات". وإلا ستحدث اضطرابات هائلة في إمدادات المياه والغذاء. وأضاف كيم: "إن أسوأ التأثيرات تطال أفقر السكان في أفقر البلدان".
إذا ارتفعت درجة حرارة العالم لأربع درجات، فسترتفع الأضرار إلى مابين 100-200 مليار دولار سنوياً بحسب تقدير الخبير الاقتصادي مندلسون. كما أن دراسات أخرى تشير إلى مبلغ أكبر من ذلك بكثير. ويعد هذا كثيراً، ولكنه هل يكفي هذا أيضاً لتبرير التكاليف الإضافية للأهداف الطموحة لخفض درجة الحرارة؟
نظرة محدودة
وعن التقديرات الاقتصادية لتكلفة وفوائد مكافحة التغيرات المناخية، يقول الباحث المناخي مايك هولمس من جامعة كامبريدج في المملكة المتحدة: "جعل أضرار التغيرات المناخية تقتصر على القيمة المادية يعد مشكلة". ويضيف الباحث بالقول: "يتم إيهام الناس بأن التغيرات المناخية هي مشكلة اقتصادية".
من جانبه يقول هولمس إن الأمر متعلق بأسئلة جوهرية أخرى مثل: "كيف نعيش على هذا الكوكب؟ وهذا مرتبط بأمور مثل العدالة، توزيع الثروة، الأخلاق، والطبيعة البشرية وكل هذا يتعدى القيمة المادية".
كما يرى هولمس أن النظرة المحدودة للاقتصاديين واضحة أيضاً في النماذج التي يقدمونها، مضيفاً: "كل شيء لا يمكن تسويقه، سيُهمل"، كما يقول في حديثه مع DW. ويتساءل: "كيف يٌقيم المرء الطبيعة؟ ماهي قيمة النظم الإيكولوجية في مختلف الثقافات؟".
ويظهر حجم التكاليف المتكبدة في البلدان الغنية والأضرار التي لحقت بالناس في البلدان الفقيرة ظُلم المقارنات الاقتصادية. وكان ذلك واضحاً بشكل خاص في تقرير مبكر للمناخ العالمي، كما يقول هولمس، مضيفاً أن "الاقتصاديين صنفوا حياة المواطن الأميركي 100 مرة أكثر قيمة من حياة مواطن كيني".
أندرياس بيكر/ إ. م