من لندن إلى شرم الشيخ: الإرهاب ليس له لا ربا ولا دينا
ماذا يحدث في عالمنا في هذه الأيام؟ تفجيرات إرهابية هنا وذعر وخوف وهلع هناك، جثث تحترق وأناس أبرياء يموتون من غير ذنب. شباب يحزمون أنفسهم بالمتفجرات ويذهبون إلى الموت وكأنهم ذاهبون إلى نزهة. وفي المقابل هناك تشديد في الإجراءات الأمنية وسن قوانين جديدة لمكافحة الإرهاب، لكن العمليات الإرهابية رغم ذلك لم تتوقف والأمن لم يتحقق وكل ما تحقق ليس الحيلولة دون وقوع تفجيرات إرهابية وإنما في اغلب الأحوال المعرفة اللاحقة للجهة (العدو) التي تقف خلف تلك التفجيرات حتى قبل أن تعلن هذه الجهة عن نفسها، فغالبا ما نسمع أن التفجيرات تحمل بصمات تنظيم " القاعدة" وغالبا ما تعلن الجهة المنفذه عن مسؤوليتها عن تلك العمليات. أما المحللون والخبراء ورجال الأمن فينتظرون العملية القادمة.
استراتيجية "إشاعة الخوف"
وفي نظرة إلى طبيعة الأهداف التي تستهدفها التفجيرات، يلاحظ المرء أنها أهدافا منتقاة بدقة، لدرجة أن الأمر أصبح في بعض الأحيان مجرد كليشه معروفة مقدما ولا ينقصها سوى تحديد الموعد الزمني لهذه الهجمات. إن انتقاء هذه الأهداف (مراكز تجارية، محطات قطارات، فنادق سياحية وما شابه ذلك) يشير بوضوح إلى أن استراتيجية الإرهاب هي أولا إشاعة الخوف والذعر في الدول والمجتمعات المستهدفة (العدو) وثانيا ضرب الاقتصاد الوطني. إذاً إشاعة الخوف هو عنصر رئيسي في استراتيجية الإرهاب، والإرهاب أصلا هو بث الخوف والذعر في روح (العدو)، وذلك لهز معنوياته وهزيمته نفسيا ومعنويا. وتستخدم الجهات المسؤولة عن التفجيرات وسائل الإعلام المختلفة لتحقيق هذا الغرض، حتى أن الإرهاب أصبح هو الأخر "إرهابا معولما" بفضل وسائل الإعلام، ولا غرابة أن نسمع بعض الأحيان عن إعلان جهتين مختلفتين عن مسؤوليتهما عن أي من تلك العمليات التي تنفذ هنا أو هناك.
هستيريا الأمن
منذ تفجيرات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية ومرورا بتفجيرات مدريد ولندن والحكومات الأوروبية بالذات تعيش "هستيريا أمنية" ربما لم يسبق لها مثيل. وفي هذه المجتمعات التي عاشت لقرون في أمن اجتماعي وسلام صار الهاجس الأمني يحتل أولوية قصوى. وقد سارعت الحكومات الغربية إلى سن قوانين استثنائية أو تفعيل قوانين قديمة كانت معطلة منذ زمن، وذلك بهدف مكافحة الإرهاب. ووفقا لتلك القوانين ولأسباب أمنية، لجاءت وتلجئ الجهات المنية إلى إجراءات أمنية وقائية لم تكن معروفة في المجتمعات الغربية عموما. تلك القوانين والإجراءات الاستثنائية تضع الحريات الديمقراطية في هذه المجتمعات على المحك. إذ تبرز على السطح إشكالية تعارض الإجراءات الأمنية مع الحريات الديمقراطية ويصبح السؤال الأكثر حيوية هو هل التضحية بالحريات الديمقراطية من أجل الأمن هو الثمن الذي يجب أن يدفعه المجتمع وحريات المدينة؟ ولكن حتى لو فرضنا أن ذلك ثمنا معقولا فان السؤال الأكثر إلحاحا هو هل سيتحقق الأمن فعلا بفضل هذه الإجراءات أم أنه يجب الوقوف فعلا على الأسباب الحقيقية لظاهرة الإرهاب؟
لقد اثبت الإجراءات الأمنية الوقائية في كثير من الحالات عدم فاعليتها في منع وقوع هجمات إرهابية، فتفجيرات لندن على سبيل المثال حدثت رغم أن الكثير من الخبراء والمحللين كانوا يتوقعونها وكانت الحكومة البريطانية نفسها تعي أن بريطانيا هي الهدف القادم. ما كان مجهولا فقط هو زمان ومكان العمليات، وذلك على الرغم من إن تفجيرات مدريد أعطت مؤشرا إلى أن خطوط القطارات هي الهدف الأسهل لمثل هذه العمليات. ومع ذلك حدثت هذه التفجيرات وجاءت تفجيرات شرم الشيخ الأخيرة التي استهدفت مرافقا سياحية واقتصادية حيوية حدثت في ظل إجراءات أمنية مشددة. الخلاصة التي نريد أن نصل إليها هي إن معالجة ظاهرة الإرهاب تستدعي أولا الوقوف على أسبابه الحقيقية.
الإرهاب ظاهرة سياسية
يعد اعتراف رئيس الوزراء البريطاني توني بلير عقب تفجيرات لندن بأهمية المعالجات السياسية لظاهرة الإرهاب أول اعتراف من مسؤول غربي على هذا المستوى. وقال بلير إن الإرهاب ظاهرة سياسية أولا وإنها ثانيا لا تعالج بالقوة وحدها. فالحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية على الإرهاب عقب تفجيرات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 لم تؤد إلا إلى توسيع رقعة الإرهاب ولم تجعل العالم أكثر أمنا كما كان زعم الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش. وحتى الحرب الأمريكية على العراق كانت أحدى صيغ الحرب على الإرهاب، الذي لم يكن حينها قد وصل إلى العراق ولندن ومدريد، ولكنه بفضل هذه الحرب وجد لنفسه أرضية خصبة هي العراق، وذلك لمواجهة (العدو) ومبررا لعملياته ضد (المحتل لأراض عربية). وبذلك فان الإرهاب لم يأت من فراغ، وإنما جاء انعكاسا لسياسات هيمنة وتسلط قوى دولية وقهر وظلم واستبداد أنظمة سياسية محلية.
حلقات مفرغة
لا تزال الحكومات الغربية عموما "تسوق" سياسة مفادها أن الإرهابيون هم أناس يكرهون الدول الغربية. وتعزو هذه الحكومات قولها هذا إلى أن الإرهابيين يكرهون العالم الحر المتحضر ويكرهون الديمقراطية والحرية، وأنهم يعتنقون إيديولوجية هي بطبيعتها "إيديولوجية شر" في مواجهة "الخير" وما إلى ذلك من المبررات التي تعطي الحق لهذه الحكومات في اتخاذ إجراءات استثنائية لحماية الديمقراطية والحرية. على الجانب الأخر يبرر الإرهابيون أعمالهم بأنها موجهة ضد "قوى الشر" "المحتلة لأراضيهم" و"المغتصبة لثروات بلدانهم". وفي الوقت الذي تمضي الدول الغربية قدما في سياساتها الداعية إلى هزيمة الإرهاب ومحاربة عدو مجهول لم يهزم بعد ويطل كل مرة من مكان ما ويصر على زعزعة أمن وكيان (العدو). إذاً الحديث يدور حول حلقة مفرغة من العنف والعنف المضاد، إي الإرهاب وإرهاب الإرهاب التي لا يبدو أن نهايتها تلوح قريبا في الأفاق مادام كل طرف مصر على كسب المعركة ضد الأخر بأسلوبه وطريقته وبوسائله الشرعية وغير الشرعية.
تقرير: د. عبده جميل المخلافي