منطقة القبائل تُغيّر"قواعد الاشتباك" بين المغرب والجزائر
١ سبتمبر ٢٠٢١أورد البشير الدخيل، وهو أحد القياديين المؤسسين لجبهة بالبوليساريو الذين اختاروا العودة إلى المغرب، أن الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، قال مرة خلال اجتماع مع مؤسسي الجبهة في السبعينات من القرن الماضي: "سأضع حجرا في نعل المغرب"، في إشارة لدعمه لمساعي البوليساريو لتأسيس دولة مستقلة في الصحراء الغربية.
وسواء كان هذا الكلام دقيقا أم لا، فإن الأكيد هو أن الحجر تحول مع مرور الزمن إلى جبل ضخم يجثم بكل ثقله ليس فقط على المغرب ولكن أيضا على الجزائر والمنطقة برمتها. معضلة تحولت إلى أقدم نزاع في القارة الإفريقية، بأبعاد جيوسياسية تتداخل فيها عوامل السياسة الداخلية للبلدين مع طموحاتهما للريادة الإقليمية.
ورغم نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين وسلسلة التغيرات التي عرفها العالم والمنطقة العربية بالتحديد، ظلت معضلة الخلافات بين الجزائر والمغرب مستعصية على الحل. غير أن "قواعد الاشتباك" بين الطرفين، سواء كانت ديبلوماسية أو عسكرية عرفت مدا وجزرا حسب تغيرات موازين القوى. صحيفة "فرانكفورته ألغماينه تسايتونغ" (25 أغسطس / آب 2021) كتبت تقريرا ذكًر بأن المغرب سبق له قطع علاقاته الديبلوماسية بالجزائر عام 1976 لسبب مماثل، حينما اعترفت الجزائر بـ"الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية" وأضافت أن "المبعوث المغربي (عمر) هلال قد أعرب عن دعمه لإقليم القبائل المستقل ردا على دعم الجزائر لجبهة البوليساريو"، فيما يبدو أنه توازن جديد للرعب بين البلدين.
سلاح تقرير المصير ـ القبائل والصحراء الغربية
قرار الجزائر قطع علاقاتها الديبلوماسية مع الرباط، وإن لم يكن مفاجئا تماما، إلا أنه خطوة دراماتيكية تعبر عن لحظة بالغة الدقة في النزاع المتجدد بين البلدين، نزاع يتجاوز عناصر الورقة التي قرأها وزير الخارجية الجزائري رمطان العمامرة في مؤتمر صحافي (الثلاثاء 24 أغسطس/ آب) وسرد فيها مبررات القرار. ومن بين كل المبررات هناك واحد أجج غضب الجزائر ويعود سياقه لمعركة ديبلوماسية طاحنة، كان مسرحها اجتماع لمنظمة عدم الانحياز (13ـ 14 يوليو/ تموز) أثار فيها العمامرة قضية الصحراء الغربية. ورد عليه مندوب المغرب في الأمم المتحدة عمر هلال في مذكرة وزعها على أعضاء المنظمة، يستنكر فيها إثارة العمامرة للقضية، معلنا في نفس الوقت دعم بلاده لـ"حق تقرير مصير شعب القبائل"، بعدها استدعت الجزائر سفيرها في الرباط "فوراً للتشاور" قبل أن تقطع العلاقات بالكامل، في تعبير عن رفض صناع القرار في الجزائر لمساعي المغرب إلى فرض "قواعد اشتباك" جديدة تقوم على منطق العين بالعين والسن بالسن وبالتالي الصحراء بالقبائل. وبهذا الصدد كتب موقع دويتشه فيله في نسخته الألمانية (25 أغسطس، آب) أن البلدين يوظفان النقاش حول حقوق اللاجئين والأقليات في مختلف أنحاء العالم كل على طريقته "فبدفاع المغرب عن الأمازيغ في منطقة القبائل، يبدو وكأنه يرد الصاع صاعين للجزائر التي تدعم قضية الصحراء الغربية".
الجزائر انتفضت واعتبرت أنه لا مجال للمقارنة بين مشكلة دولية في يد الأمم المتحدة وبين منطقة القبائل التي تعتبر جزء من الأراضي الجزائرية معترف بها دوليا. خبراء مغاربة يستندون لتمرد منطقة القبائل ضد السلطة المركزية ومشاركتها شبه المنعدمة في الاستحقاقات الانتخابية. كما يتعبرون تقرير المصير، مبدأ عاما لا يمكن استعماله بشكل انتقائي ومزاجي، مستشهدين بمساعي مقاطعة كبيك الكندية التي أجرت استفتائين، آخرها عام 1995 حول مستقبل السيادة على الإقليم رغم أن القانون الدولي يعتبر المقاطعة جزءا من الأراضي الكندية. وهناك أيضا استفتاء استقلال اسكتلندا عن المملكة لمتحدة عام 2014 أو انفصال جنوب السودان عن شماله عام 2011.
بين يد الملك الممدودة وسيف هلال القاطع
رصد عدد من المراقبين الجزائريين ما أسموه ازدواجية في خطاب المغرب تجاه بلادهم، فمن جهة دعا الملك محمد السادس (31 يوليو/ تموز)، الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى تطوير العلاقات الأخوية بين البلدين، معتبرا أنه من غير المنطقي بقاء الحدود بين الجارين مغلقة منذ عام 1994. وأكد الملك أنه لا هو ولا الرئيس تبون ولا حتى الرئيس الذي سبقه (بوتفليقة) مسؤولون عن الوضع الحالي واستطرد موضحا أن "ما يمس أمن الجزائر يمس أمن المغرب، والعكس صحيح"، مؤكدا أن "المغرب والجزائر أكثر من دولتين جارتين، إنهما توأمان متكاملان".
رد الرئيس عبد المجيد تبون على خطاب الملك جاء بعد أسبوع (الثامن من أغسطس/ آب)، وشدد خلاله على أن بلاده لم تتلق جوابا من المغرب بشأن التوضيحات التي طلبتها من الرباط حول تصريحات الديبلوماسي المغربي في الأمم المتحدة. وفي نفس الوقت أوضح أن قضية الصحراء في يد الأمم المتحدة ولجنة تصفية الاستعمار، مشددا على أن الجزائر "تلعب دور الملاحظ النزيه فقط". وأكد الرئيس الجزائري أن بلاده "مستعدة لحل المشاكل بين الطرفين واحتضان لقاء بينهما على أرض الجزائر ولكن بما يرضي الطرفين".
رد تبون أظهر وكأن البلدين يمارسان حوار الطرشان، فما يعتبره تبون نزاهة، يرى فيه المغرب تحاملا على وحدته الترابية، والعكس بالعكس.
ما يبدو ازدواجية في موقف المغرب يمكن تأويله على أنه خياران يطرحهما المغرب أمام الجزائر، الأول تصالحي، كما يوحى بذلك خطاب الملك، والثاني تصعيدي، كما يجسد ذلك ممثل المملكة في الأمم المتحدة. هلال بات يحرك ملف القبائل بشكل منهجي كلما أثارت الجزائر موضوع الصحراء الغربية. فهو لم يأبه بالارتدادات التي خلقتها تصريحاته الأولى، إذ عاد وجدد (30 أغسطس/ آب) نفس التعليقات التي دفعت بالجزائر لقطع علاقاتها مع المغرب، وقال إن هناك أوجه تشابه بين النزاع الصحراء الغربية وتلك الواقعة في منطقة القبائل الجزائرية. وقال هلال "شعب القبائل... له أيضا الحق في تقرير المصير. فلماذا تنكر الجزائر عليه ما تطالب به مغاربة الصحراء؟".
التغريدة التي غيرت كل شيء؟
في ديسمبر / كانون الأول 2020، كتب الرئيس السابق دونالد ترامب تغريدة تعترف واشنطن بموجبها بسيادة الرباط على الصحراء الغربية مقابل إقامة علاقات ديبلوماسية بين المغرب وإسرائيل. صحيفة "تاغستسايتونغ" اليسارية (25 أغسطس/ آب) كتبت بشأن تصريحات عمر هلال وقالت "من الواضح أن النجاحات الأخيرة للديبلوماسية المغربية يُنظر إليها في الجزائر العاصمة كاستفزاز، ما يزيد من حدة التوتر بين البلدين. ولعل أهم نجاح كبير حققته الرباط هو اعتراف الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. وهو تحول تاريخي في السياسة الخارجية للولايات المتحدة (في المنطقة)".
وعلى الرغم من الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء الغربية وتزايد عدد الدول العربية والإفريقية التي تفتح قنصلياتها هناك، إلا أن الكثير من الدول كألمانيا تفضل قرارا في سياق تدعمه الأمم المتحدة في هذا الشأن. واتهم مجلس الأمن الجزائري (دون أدلة لحد الآن) أطرافا أجنبية وخاصة المغرب وإسرائيل بدعم حركة استقلال منطقة القبائل الانفصالية (ماك) التي مقرها باريس والحركة الاسلامية "رشاد" الموجودة في لندن. كما وجه المجلس اتهاما أيضا لـ"ماك" بإشعال الحرائق في منطقة القبائل التي أسفرت عن 90 قتيلا.
فهل الديبلوماسية الهجومية التي تتبناها الرباط مؤشر لانقلاب في موازين القوى في المنطقة؟ موقع "تاغسشاو" التابع للشبكة التلفزيونية الألمانية الأولى (ARD) أعاد في مقال مستفيض لمراسلته في الرباط (28 أغسطس/ آب)، رسم الأبعاد التاريخية للنزاع المغربي الجزائري منذ الاستقلال إلى اليوم. وقال "على الرغم من أن الوضع أصبح مرتبكا، إلا أن المغرب تمكن خلال السنين الأخيرة من تعزيز موقفه السياسي، وهو ما تَوجه باعتراف واشنطن بسيادة المملكة على الصحراء الغربية. وهذا ما جعل المغرب يتحرك بثقة أكبر على مستوى السياسة الخارجية، في وقت تواجه فيه الجزائر، أكبر دولة في إفريقيا، حركة احتجاجات شعبية منذ سنوات". وسبقت صحيفة "تاغستسايتونغ" اليسارية الذهاب لنفس الاتجاه (25 أغسطس/ آب) واعتبرت أنه من المرجح أن تكون تصريحات عمر هلال "ردا على دعم الجزائر لحركة البوليساريو في الصحراء الغربية. لكن النزاع المتفاقم بين البلدين له أيضًا بعد سياسي إقليمي يتجاوز الدعم المتبادل لحركات الاستقلال في كل منهما".
قواعد الاشتباك واحتمال مواجهة عسكرية؟
ورغم تدهور العلاقات بين البلدين إلى مستوى الصفر، إلا أنّ معظم المراقبين يستبعدون الانزلاق إلى مواجهة عسكرية مفتوحة بسبب توازن الرعب بين البلدين اللذين يتربعان على عرش شراء الأسلحة في القارة الإفريقية. الاحتكاكات العسكرية المباشرة بين البلدين (حرب الرمال 1963 بسبب مشاكل حدودية، ومغالة 1و2 1976 بسبب الصحراء الغربية) كانت محدودة في الزمان وعلًمت الطرفين العواقب الوخيمة لأي مواجهة مفتوحة. القادة الجزائريون أكدوا في أكثر من مناسبة، في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة على الأقل، أن بلادهم لن تدخل أبدا في حرب مع المغرب بسبب الصحراء الغربية.
المغرب يعتبر من وجهة نظره أن الجزائر تفرض عليه حرب استنزاف بالوكالة، باستعمال البوليساريو منذ عام 1975. الجبهة خاضت حرب عصابات قامت على تكتيك الكر والفر، إلى أن شيد المغرب في منتصف الثمانينات جدارا رمليا ضخما بطول 2700 كيلومترا، أمّن به المغرب 80% من أراضي الإقليم المتنازع عليه. ومنذ ذلك الحين يجمع الخبراء أن المغرب حسم بذلك المعركة العسكرية، ولا توجد هناك في الأفق مؤشرات قادرة على تغيير هذا الوضع بشكل جدي. ورغم ضعف البوليساريو، فمن المستبعد أن تغير الجزائر قواعد الاشتباك العسكري مع المغرب وتدخل في مواجهة مباشرة معه. غير أن الاستقرار الحقيقي في المنطقة لن يتحقق إلا بالتوصل لحل سياسي تتوافق عليه كل الأطراف.
تبون ـ رفض "الهرولة" نحو إسرائيل
تتابع الجزائر بعين من الشك والريبة التطبيع الديبلوماسي بين الرباط وتل أبيب. وسبق للرئيس تبون أن انتقد (سبتمبر/ أيلول 2020) التقارب مع إسرائيل وقال "أنا أرى أن هناك نوعا من الهرولة نحو التطبيع ونحن لن نشارك فيها ولن نباركها، والقضية الفلسطينية عندنا تبقى مقدسة بالنسبة إلينا وللشعب الجزائري برمته"، وحينها لم تطبع الرباط بعد علاقاتها مع إسرائيل. وبالتالي فقطع العلاقات مع المغرب قد يفهم منه رد فعل متأخر على اتفاقيات أبراهام. الجزائر غضبت أيضا من تصريح لوزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد خلال أول زيارة رسمية له للمغرب (12 أغسطس/ آب) عبر فيه عن "قلق بلاده من التقارب بين إيران والجزائر، ورفضها (الجزائر) قبول إسرائيل في الاتحاد الإفريقي بصفة مراقب". ونددت صحف جزائرية بما أسمته "تشكيل محور بين المغرب ودولة الكيان الصهيوني" ضد المصالح الجزائرية ووحدتها الترابية.
وبهذا الصدد استشهد موقع "دويتشه فيله" في نسخته الألمانية (25 أغسطس/ آب) بخبيرة الشؤون السياسية إيزابيل فيرينفيلس من مؤسسة العلوم والسياسة في برلين التي قالت "إن الجزائر تسعى لأن تصنع لنفسها اسمًا كواحد من الممثلين العرب القلائل الذين لا يزالون يقفون إلى جانب الفلسطينيين الرافضين لجهود التطبيع العربي الإسرائيلي (..) وفي هذا أيضًا إشارة سياسية مهمة للداخل، في وقت لا تتمتع فيه الحكومة الجزائرية بشعبية على الإطلاق".
مصدر ديبلوماسي إسرائيلي ندد باتهامات الجزائر واعتبر أنه "لا أساس لها" من الصحة، موضحا أن "ما يهم، هو العلاقات الجيدة جدا بين إسرائيل والمغرب". المصدر اعتبر أن "إسرائيل والمغرب هما جزء أساسي من محور عملي وإيجابي قائم في المنطقة في مواجهة محور يسير في الاتجاه المعاكس يضم إيران والجزائر (..) نحن على تواصل دائم مع المغاربة (...) على الجزائر أن تصب تركيزها على مجموعة المشاكل التي تواجهها وخصوصا المشاكل الاقتصادية الجدية".
وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة رد بدوره وقال "تجب الاشارة إلى أنه منذ عام 1948 لم يُسمع أي عضو في حكومة إسرائيلية يصدر أحكامًا أو يوجه شخصيا رسائل عدوانية من أراضي دولة عربية ضد دولة عربية أخرى مجاورة (..) على صعيد الأمن الإقليمي، فإن قيام السلطات المغربية بمنح موطئ قدم لقوة عسكرية أجنبية في المنطقة المغاربية وتحريض ممثلها على الإدلاء بتصريحات كاذبة وكيدية ضد دولة جارة، يشكل عملا خطيرا وغير مسؤول"، حسب تعبيره.
حسن زنيند