مهاجرة سورية: لنستلهم المثال الألماني في إعادة بناء بلادنا
٧ يونيو ٢٠١٦ما زلت أذكر الأيام الأولى في عامي الدراسي الأول في مدينة بون، حيث قامت إدارة الجامعة بتنظيم زيارة إلى متحف "بيت التاريخ" هناك. حقيقةً إنّني لم أعط الأمر أهمية كبيرة في البداية، ظناً مني بأنه متحف كأي متحف آخر، لكنني لم أتوقع أن أتوقف مطولاً أثناء الجولة في كل زاوية وعند كل قطعة هنا أو هناك، وكنت أنظر إلى كل شيء بعين مختلفة عن أعين الآخرين.
استمتعت بتلك الجولة في المتحف، كاستمتاعي بمشاهدتي فيلم سينمائي مشوق انتظرت عرضه بلهفة. المتحف يروي تاريخ ألمانيا الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، كحكاية طفلة فقيرة أدمتها الحياة، مروراً بكل المراحل التي صقلت كيانها وجعلت منها ملكة قوية تتربع على عرش أوروبا. أثناء تجولنا في أقسام المتحف كنت مذهولة بإنجازات هذه الدولة خلال 70 عاماً، وكيف انبعثت من تحت الأنقاض والرماد مثل طائر الفينيق وعادت إلى الحياة بسواعد أهلها بعد أن كانت قد خرجت من الحرب وقد تحولت إلى أنقاض وحطام. كنت أستكشف المتحف بحماس شديد وأقف كتمثال لا يريم أمام كل تفصيل. فلكل زاوية هناك حكاية تعيدني إلى الوطن. كم تمنيت أن تكون ألمانيا نموذجاً نحتذي به في المستقبل. فأنا على يقين تام بأن الحرب ستنتهي عاجلاً أم آجلاً وسنعود لبناء سوريا الحديثة كما نحلم بها. أدرك كما يدرك الجميع، بأننا سنعود لإعادة إعمار بلدنا من جديد، بالعلم وبالجد والعمل والخبرات التي سيكتسبها كل سوري في رحلة اغترابه. ولن يبقى من الحرب سوى حجارة صغيرة نعيد بها بناء المنازل والأبنية، ومن القمع والقتل سوى دبابة قابعة في زاويةِ متحفٍ كتلك التي رأيتها خلال جولتي.
"إزرع الأمل قبل القمح"
كنت أتابع السير والتأمل والحلم بخطوات النجاح التي تكشف قصة المعجزة الاقتصادية الألمانية التي جعلت منها إحدى أقوى اقتصادات العالم وقاطرة الاقتصاد الأوروبي. وعند رؤيتي للمارك، العملة الرسمية السابقة لألمانيا قبل اليورو، شعرت بالأسى للتأرجح الذي إستبد بالليرة السورية، ولا أعلم إن كان لحضورها مساحة محجوزة في متحف المستقبل!!
تابعت.. رحت أجلس برهة لمشاهدة فيديو قصير هنا وأقف برهة هناك لأتمعّن ملامح النساء القويات اللواتي زرعن الأمل ورفضن اليأس. كان المتحف يعجّ بالطاقة الإيجابية بكل قطعة أثرية. في كل مجسّم كنت أرى مدينة سورية قبل وبعد إنتهاء الحرب، ها هي حمص وها هي حلب.. درعا.. الرقة.. بانياس.. القامشلي.. جميعها ستنبض بالحياة والأمل. وأكثر المحطات التي شدت انتباهي كانت الحملات الإعلامية، التي لا تقل قوةً عن صواريخ الحرب بشعاراتها وكلماتها التي انطلقت لتبني لا لتدمّر. بالإضافة إلى صور لبقايا جدران محطمة كتبت عليها عبارات تبعث على الأمل وتحثّ على العمل من قبيل: "لا تنتظر حقك.. إفعل ما تستطيع إزرع الأمل قبل القمح"، و"معاً سننجز ذلك".. ونحن أيضا سننجز ذلك معا.
قد يعتقد البعض بأنني حالمة والأفكار التي تراودني ما هي إلا ضرب من الخيال والمستحيل، ذلك لأنهم لا يعلمون أن شعباً ومجتمعا يتقاسم فيه الفقير مع جاره كسرة الخبز الأخيرة، ويوصيه بكلمات صادقة: "إذا لزمك شي أنا موجود.." يحتفظ بالخير في كل مسامه رغم محاولات الحرب تشويه ما في قلبه من محبة. سيكون هذا الشعب قادراً على ملء فوراغ الرصاص بأزهار الياسمين. لن تقتل وحشية الحرب حب الحياة فينا لأننا نستحق السلام.
مضى الوقت سريعاً في ذلك المتحف وانتهت جولتنا هناك. خرجت مع زميلاتي وزملائي بروح جديدة وبآمال كبيرة. تلك كانت ذكرياتي الأولى في مدينة بون، وتلك الصور لم تغب عن مخيلتي أبداً، وباتت كترياق الحياة بالنسبة لي كلما تسلل اليأس إلى قلبي. في كل مرة أمرً جواره، لا أستطيع منع نفسي من الابتسام والرغبة بقضاء ساعات طويلة أتجول بين جدران متحف "بيت التاريخ".. متحف الأمل.