هل تتحطم الديمقراطية على صخرة الأمية؟
٢٥ مايو ٢٠١٣تمثل التجربة المصرية عقب ثورة يناير 2011 حالة نموذجية للعقبات التي يمكن أن تواجه التحول الديمقراطي في مجتمع ترتفع فيه نسبة الأمية وتتسم منظومته التعليمية بالترهل. فمع كل استحقاق انتخابي يفوز فيه اليمين الديني المتطرف، تتعالى أصوات تندد بـ"انعدام وعي الجماهير": ثمة من يطالب بمنع غير المتعلمين من التصويت، وثمة من يرى الحل في احتساب صوتهم بنصف صوت، في حين ينعي بعض السياسيين فرص التحول الديمقراطي في هكذا مجتمع ويتباهون بأن مؤيديهم من المتعلمين في حين أن مؤيدي منافسيهم "أميون مغرر بهم"!
معظم أصحاب هذه الآراء، من المفترض أنهم محسوبون على القوى الديمقراطية، ورغم هذا لا يرون تناقضاً في مطالبتهم بحرمان شريحة كبيرة من الشعب من حقها في التصويت وفرض الوصاية عليها.
وبشكل عام فإنه في كل مرة تُطرح فيها مشكلة الأمية في مصر ودورها في إعاقة مسار التحول الديمقراطي تنقسم الآراء إلى ثنائية مانوية مختزَلة بين من يحمِّلون غير المتعلمين والفقراء مسؤولية صعود تيارات اليمين الديني المتطرف بطريقة تتسم بالتعالي، وبين من يعتبرون أن مجرد طرح الأمية كمشكلة تعوق تطور المجتمع، ناجم عن نظرة طبقية مكروهة وتعالٍ نخبوي.
"لا يجب استغلال الأمية لتبرير الديكتاتورية"
في المساحة بين هاتين الرؤيتين، ثمة ظلال وأطياف عديدة، فمع الاعتراف بصعوبة إرساء ديمقراطية تحترم حقوق المواطنة وحقوق الإنسان بدون نظام تعليم جيد ومفتوح لكل شرائح المجتمع، علينا الانتباه إلى عدد من الأمور. أولها التأكيد البديهي على أن انتشار الأمية في مجتمع ما لا يجب أن يُستغل كتبرير للديكتاتورية بحجة أن الشعب غير مستعد بعد للديمقراطية، كما سبق أن شهدنا في مصر حين تكررت هذا الحجة على لسان حسني مبارك ومدير مخابراته الراحل عمر سليمان. علينا ثانياً الاعتراف بأن المشكلة لا تتمثل فقط في عدم القدرة على القراءة والكتابة، إنما قد تكمن بالأساس في تلقي تعليم غير جيد يشوش مفاهيم الديمقراطية، ولا يهتم بغرس قيم حقوق الإنسان وعدم التمييز في نفوس التلاميذ منذ الصغر.
من هنا، وضماناً لنجاح الانتقال الديمقراطي، لابد من العمل على محو الأمية جنباً إلى جنب مع تطويرالنظام التعليمي القائم وتنقية المناهج التعليمية من آثار عقود الديكتاتورية، ومن ملامح الفكر الغيبي والتشدد الديني، والبروباغندا للسلطة القائمة.
مفهوم الديمقراطية غائب حتى لدى بعض خريجي الجامعات
في ظل منظومة تعليم مهترئة سنجد مِن بين خريجي الجامعات في مصر مَن يتصور أن انتخاب رئيس ما يعني التغاضي عن القتل والتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان لمجرد أن الحاكم الذي يدعم هذا النهج العنيف جاء عبر صناديق الاقتراع! كما سنجد رئيساً منتخباً يخلط - عن جهل أو عن تلاعب - بين الانتخاب الديمقراطي ومفهوم "البيعة" الإسلامي القائم على السمع والطاعة وتحريم الخروج على الحاكم.
بعد ستة عقود من الحكم الاستبدادي تدهور خلالها مستوى المدارس والجامعات الحكومية، ليس مفاجئاً أن مفهوم الديمقراطية هش وغائم في الأذهان، ومحاولات الوصول إليها تُوَاجه بتحديات جمة، أخطرها احتمالية امتزاج إرث الديكتاتورية العسكرية مع ديكتاتورية دينية في طور التشكل، تقوم على المتاجرة بالدين وخلطه بالسياسة، هذا الامتزاج قد يؤدي في حالة عدم وجود مقاومة مجتمعية إلى فاشية دينية تصم المعارضين بالكفر وتهدر دمهم باسم الدين. أو قد يفرغ الديموقراطية من معناها ويحوِّلها إلى ديمقراطية إجرائية أو حتى ديمقراطية شمولية.
من هنا تنبع أهمية إصلاح التعليم الديني هو الآخر وتنقية الخطاب الديني من الأفكار العنصرية والتمييزية ضد النساء ومعتنقي الأديان الأخرى. فمن ضمن العقبات الرئيسية شيوع نمط متشدد من التأويل الديني يقوم على إقصاء الآخر المختلف ويقدم نفسه باعتباره التأويل الوحيد الصحيح للنص الديني. هذا النمط يتبناه دعاة وشيوخ يستغلون مكانتهم الدينية في نفوس المتدينين لإيهامهم بأن التصويت لمرشحين علمانيين حرام شرعاً، وأن التصويت لمرشح إسلامي بعينه بمثابة تذكرة للجنة، وهو ما يحوِّل التنافس السياسي إلى صراع بين الجنة والجحيم، ويجعل البسطاء فريسة سهلة ووقوداً لصراعات لا تخصهم.
لكن هل الأميون هم المقصودون بالبسطاء في كلامي؟!
على رغم زيادة نسب التصويت الطائفي والتصويت لليمين الديني المتشدد حيث ترتفع نسبة الأمية، فثمة مغالطة في إلقاء اللوم بالمطلق على غير المتعلمين، لأنهم يملكون وعياً يمكِّنهم من الانحياز للخيارات التي يرونها أفضل لحل مشاكلهم، والتصويت لمن يعمل على الأرض بينهم. وسرعان ما يغيرون اتجاهاته التصويتية إذا اكتشفوا أنهم تعرضوا للخداع، أي أنهم يحددون خياراتهم، عبر التجربة والخطأ، ووفقاً لما يستجد من تغيرات، وليس مرة واحدة وللأبد. ثم أن الناخب أياً كان تحصيله العلمي من حقه اختيار ما يوافق قناعاته من دون أن يُتَهم في وعيه أو قدرته على التمييز.
على الجانب الآخر رأينا أنه في حالات كثيرة صدرت أفكار بل ممارسات طائفية ومضادة لحقوق المواطنة وللحريات من حاصلين على أعلى الدرجات العلمية. وبالتالي من المجحف وضع غير المتعلمين في دائرة الإتهام كلما قوبل المسار الديمقراطي بما يعرقله، ومن النفاق عدم الاعتراف في الوقت عينه بأن انتشار الأمية مشكلة يجب العمل على حلها بسرعة من أجل ضمان تكافؤ الفرص التعليمية بين المواطنين كافة.
سيحتاج إصلاح التعليم وتطويره إلى فترة زمنية ليست بالقصيرة، هذا في حالة توافر النية لإصلاحه من الأساس، وإلى أن يتحقق هذا فالأمل معقود على منظمات المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية المستقلة والأحزاب السياسية لنشر الوعي السياسي وتعريف المواطنين على اختلافهم وتنوعهم بحقوقهم وواجباتهم، والضغط من أجل البدء فوراً في إصلاح النظام التعليمي.
نهاية،ً فالوعي بأن إرساء الديمقراطية الليبرالية بعد عقود من الاستبداد هو عملية صعبة تحتاج جهوداً مستمرة على جبهات عدة، سوف يجعلنا أكثر تفهماً للهنّات الناجمة عن ارتفاع نسبة الأمية، وأكثر قدرة على إيجاد حلول تكفل المساواة بين جميع المواطنين وتعمل على توسيع مساحة العمل السياسي.