يوميات سورية ـ اشتباكات دمشق تقترب من تخوم القصر الجمهوري
١٨ يوليو ٢٠١٢كأن اللافتات التي دأب المتظاهرون على رفعها في مظاهراتهم الأخيرة، التي كتبت عليها كلمة (جايينك ... جايينك)، والمقصود بها ساكن قصر المهاجرين الرئيس بشار الأسد، لم تكن حبراً على ورق. إذ لم تمض سوى أسابيع قليلة حتى "أثبتَ هؤلاء الشبان صدقهم"، تقول قريبتي الخمسينية، التي وقفت على شرفة منزلها في حي المهاجرين تراقب الوضع في الشارع وتحاول من خلال أصوات إطلاق النار التي تصل بوضوح معرفة مكان الاشتباكات. كانت قريبتي البدينة تشير بنوع من الزهو المشوب بالخوف إلى إعلان الجيش السوري الحر (المعارض) بدء ما يسمى بعمليات "بركان دمشق - زلزال سورية"، التي هزت العاصمة دمشق من الداخل.
لم تكن قربتي الوحيدة في حيها، التي بدت عليها علامات "الرضا" إثر ورود أخبار هذا "الزلزال" الذي هز دمشق وسوريا كلها، أقصد الأنباء التي وردت عن مقتل وزير الدفاع داوود راجحة ونائبه آصف شوكت ورئيس خلية إدارة الأزمة، وزير الدفاع السابق، حسن تركماني وآخرين لم تذكر أسماؤهم بعد. وقبل ذلك كان وصول الاشتباكات إلى أحياء الميدان والتضامن والزاهرة والقابون وبرزة البلد، التي أنذرت بدخول العاصمة على خط المواجهات العسكرية بقوة. فمعظم سكان هذا الحي الدمشقي العريق لا يكنون الود لساكنه، الرئيس الأسد، وينظرون إليه كغريب فرض عليهم فرضا يوما انقلب أبوه على زملائه واستولى على "البلد والقصر". هذا ما تقوله السيدة التي تعيش وحيدة بعد وفاة زوجها، في إشارة إلى انقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970.
وفي اليوم الذي قبله، أي الثلاثاء (17 تموز/ يوليو)، ومع حلول الساعة العاشرة صباحاً كان هاتفي المحمول يرن بإصرار. استيقظت بصعوبة بعد ليلة طويلة لم تعرف للهدوء سبيلاً، إذ كانت أصوات الانفجارات المتوالية والاشتباكات بين عناصر الجيش الحر والجيش النظامي تسمع في كل أرجاء دمشق. تناولت موبايلي (هاتفي المحمول) لأرد وإذا بصوت صديقتي نهى المرتبك يصلني بصعوبة، فالكلمات كانت متقطعة كتقطع أزيز الرصاص. نهى تتوسلني كي أساعدها في العودة إلى بيتها في حي التضامن المشتعل حيث تسكن مع والدها الأبكم، عن طريق أحد عناصر الجيش الحر الذي يمكن أن يؤمن لها ذلك.
شرحت لي صديقتي كيف أنها اضطرت للخروج من منزلها في صبيحة يوم الاثنين لتقديم امتحان في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق. وفي طريق عودتها إلى المنزل بدأت الاشتباكات والقصف على الحي فلم تستطع الدخول إليه، ما أجبرها على النوم عند إحدى زميلاتها لكنها لا تستطيع البقاء بعيداً عن أبيها أكثر من ذلك. ألحت علي كي أساعدها في تأمين عودتها، فنحن الصحفيات والصحفيون لدينا اتصالاتنا في نهاية المطاف. حاولت إقناعها بأن عودتها شبه مستحيلة لأن هذه المنطقة صارت ساحة حرب حقيقية بكل ما للكلمة من معنى، حسب بيانات الناشطين وحسب الأنباء التي تردنا وكذلك أصوات إطلاق النار التي تأتي من كل الجهات تقريباً.
وبعد إصرارها الشديد واتصالات عديدة مع بعض الناشطين وعدني أحد الشبان بأنه هو من سيؤمن دخولها إلى المنطقة ولكن على مسؤوليتها الشخصية. بالطبع وافقت صديقتي على الفور. دفعني الفضول لمعرفة الوضع على الأرض أكثر فقررت الذهاب معها للقاء الشاب.
خرجنا أنا وصديقتي حوالي الساعة الحادية عشرة ظهراً لأرى ملامح مدينة لا تشبه ملامح دمشق التي اعتدت عليها قط. فقد كانت الشوارع مقفرة على غير عادتها تماما في مثل هذا الوقت، وعناصر الأمن والشبيحة منتشرون في كامل المدينة وبالعتاد الكامل يوقفون السيارات ويفتشونها. كانوا متوجسين من أي حركة تبدو لهم مريبة قد تصدر من أي شخص. لم يكونوا يتوانون عن إطلاق النار وبدون سابق إنذار. الأسواق مغلقة وبالكاد تجد بعض المارة يتجولون في الشوارع. طائرات الاستطلاع تحلق في سماء دمشق وكأننا في ساحة حرب حقيقية. كنا كلما اقتربنا أنا وصديقتي من القسم الجنوبي للمدينة كلما علا صوت الرصاص والقصف، إلا أن صديقتي الفلسطينية الأصل لم تفزعها هذه الأصوات أبداً بل التفتت إلي قائلة: "لعل من أهم ما يحصل في هذه العملية أنها اختارت أن يكون منطلقها من حي التضامن وما حوله. فهذه المناطق تحوي أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين (مخيما اليرموك وفلسطين) في دمشق وبذلك تسقط معها أسطورة الممانعة والمقاومة التي سعى النظام السوري إلى تكريسها خلال أربعين عاماً"، في إشارة إلى الخطاب السياسي الذي تبناه نظاما الأسدين الأب والابن.
لم يستغرق الوقت طويلاً حتى وصلنا إلى المكان المتفق عليه مع الشاب، وهو في منطقة المجتهد المتاخمة لحي الميدان، الذي يشهد اشتباكات عنيفة منذ بدء "عملية بركان دمشق". وفي مدخل إحدى الحارات كان الشاب بانتظارنا. لم يبدو عليه أنه جندي منشق كمعظم عناصر الجيش الحر، بل كان مظهره أقرب إلى المثقف أو الأكاديمي لكني لم أشأ أن أسأله عن ذلك بل اكتفيت بالسؤال عن وضع الحي فقال بلهجة الواثق: "الوضع على الأرض جيد جداً رغم الحملة الشرسة التي يشنها النظام علينا وتمركز القناصة على أسطح المباني لمنع تحرك أي عنصر من عناصر من الجيش الحر أو وصول إمدادات لنا إلا أن طبيعة هذه الأحياء والأزقة الضيقة تجعل حركتنا أسرع وأسهل مع وجود إمكانية كبيرة بوصل المناطق مع بعضها".
لم يتوقف الشاب عند هذا الكلام بل أسهب في الحديث عن "التنسيق" القائم بين كتيبته وبقية كتائب الجيش الحر للقيام بعمليات في مناطق مختلفة من المدينة لتشتيت قوات الجيش والأمن. الشاب أخبرنا أن "المشكلة الأكبر" التي تواجههم هي "عملية إسعاف الجرحى، فالسلطات الأمنية تمنع دخول المصابين إلى المشافي العامة مما يضطرنا إلى معالجتهم في المشافي الميدانية المحدودة في العدد والعدة".
قطع الحديث دوي صوت انفجار ضخم قريب في المنطقة فآثرت العودة سريعاً بعد أن ودعت صديقتي وطمأنني الشاب بأنها ستكون في حمايتهم. أسرعت إلى أول مكروباص كان يمر من المنطقة وإذا بصوت رصاص كثيف بدا يسمع فجأة على بعد مئات الأمتار من مكان تواجد المكروباص الذي أركب فيه. سمعت أحد المارة يقول: "والله صابوهم فوراً أول ما حاولوا قطع الطريق". فهمت من كلامه أنها إحدى العمليات التي يقوم بها "شباب الثورة لتشتيت عناصر الأمن وافتعال الاضطرابات بأكثر من منطقة لتخفيف الضغط على المناطق الساخنة".
لم تبلغ الساعة التاسعة مساء حتى كانت شوارع مدينة دمشق خاوية تماماً من المارة إلا من عناصر الأمن والشبيحة الذين قاموا بتقطيع أوصال المدينة، فيما استمرت أصوات القصف حتى ساعات متأخرة من الليل. تسمرنا أمام شاشات التلفزيون نتلقط الأخبار سائلين المولى عز وجل ألا تنقطع الكهرباء في هذه الليلة الليلاء، بينما كانت أصوات إطلاق النار تصلنا بوضوح من عدة مناطق من العاصمة كأحياء الميدان والتضامن والزاهرة ونهر عيشة ومنطقة جسر المتحلق الجنوبي ومن حي القابون وبرزة وكفرسوسة أيضاً. كما سمع أيضاً إطلاق نار متقطع في منطقة المهاجرين حيث تسكن قريبتي بالقرب من القصر الجمهوري، ما أصاب الأهالي على أثرها بذعر لأن ذلك بمثابة "إشارة إلى اقتراب وصول الجيش الحر إلى عقر دار الأسد"، تقول قريبتي.
سوسن محروسة – دمشق
مراجعة: عماد غانم