الغواصات الفرنسية ـ سر انهيار صفقة زلزلت العلاقات الأطلسية!
٢٢ سبتمبر ٢٠٢١"طعنة في الظهر"، "خرق الثقة"، "معاملة غير لائقة"، "الكذب"، عبارات أطلقتها الدبلوماسية الفرنسية خلال الأيام القليلة الماضية للتعبير عن غضبها وخيبة أملها، ليس فقط من فسخ "صفقة" القرن مع أستراليا، ولكن من الأسلوب الذي عوملت به من قبل الحليف الأمريكي وشركائه الأنغلوسكسونيين (أستراليا وبريطانيا). فسخ أستراليا لعقد شراء 12 غواصة فرنسية أدى بالفعل إلى زلزال أعاد تسليط الضوء على طبيعة العلاقة بين واشنطن وحلفائها عامة، وخاصة غير الأنغلوسكسونيين منهم. أول المتضررين مجموعة "نافال غروب" للصناعات الدفاعية، ولكن أيضا صورة فرنسا في العالم التي خسرت أكبر عقد تجاري في تاريخها، حيث قدرته أستراليا نفسها بخمسين مليار دولار عام 2016، قيمة أعيد تقييمها لاحقا نحو الأعلى لتصل إلى 89 مليار دولار. ويذكر أن أستراليا أنفقت منذ بداية المشروع حتى الآن ما لا يقل عن 1,5 مليار يورو. الصحف الأسترالية تحدثت عن تعويضات بقيمة 250 مليون يورو سيتعين على كانبيرا تقديمها لباريس لجبر ضرر فسخ العقد. باريس شعرت بالغبن أيضا لأنه مباشرة بعد إلغاء العقد أعلنت الولايات المتحدة ومعها أستراليا والمملكة المتحدة عن تشكيل تحالف ثلاثي استراتيجي يضمن تزويد كانبيرا بغواصات أميركية تعمل بالطاقة النووية، ما يعني استبعاد باريس التي عوملت كشريك من الدرجة الثانية.
بعد تردد وانتظار دام خمسة أيام، تمكنت باريسمن انتزاع دعم الاتحاد الأوروبي الذي شكى من غياب تنسيق الحليف الأمريكي مع حلفائه، بعد أسابيع من قرار واشنطن الأحادي بسحب قواتها من أفغانستان دون استشارة شركائها. التحالف الجديد يأتي في الواقع، في سياق تحول أوسع للسياسة الخارجية الأمريكية التي ترى في الصين تهديدا استراتيجيا يجب ردعه. غير أن أصواتا داخل أوروبا تعالت لانتقاد رد فعل فرنسا "المبالغ فيه". صحيفة "تاغسشبيغل" (20 سبتمبر/ أيلول 2021) انتقدت بحدة باريس واعتبرت أن الرئيس إيمانويل ماكرون يتصرف مثل دونالد ترامب، بعد استدعاء سفراء بلاده من واشنطن وكانبيرا، واستطردت الصحيفة معلقة "هل يواجه الناتو "موتا دماغيا" مرة أخرى أم أنه "عفا عليه الزمن" بسبب عقد تسليح بمليارات الدولارات؟ ماكرون توقف قبل فترة غير بعيدة عن التهديد بالخروج (المتجدد) من التعاون العسكري في الحلف الأطلسي. إن خطابه يتجاوز الغضب المبرر بشأن خسارة صفقة الغواصات".
تردد أوروبا ـ هل تقاعست ألمانيا عن دعم باريس؟
عند اندلاع الأزمة، بدا معظم الأوروبيين بمن فيهم الألمان مترددين في اتخاذ موقف واضح، مراهنين على أن يظل الخلاف في إطار تجاري محض، وفي هذا الصدد كتبت صحيفة "هاندلسبلات" (19 سبتمبر/ أيلول 2021) أن ألمانيا "تفاعلت (في البداية) مع الأزمة الدبلوماسية المتصاعدة بين أهم شريكين لها بلامبالاة غريبة. ردود الفعل، كانت في أحسن الأحوال، تشبه هز الكتفين (..) على أمل أن يهدأ الفرنسيون بعد فترة، ويحلوا الصراع مع واشنطن". غير أن الموقف الألماني سرعان ما اتخذ اتجاها آخر أمام إصرار الفرنسيين ونجاحهم في انتزاع موقف أوروبي داعم لهم. وبهذا الصدد أعرب وزير الخارجية الألماني هايكو ماس (21 سبتمبر/ أيلول 2021) عن تضامنه مع فرنسا وقال "أتفهم غضب أصدقائنا الفرنسيين (..) إن ما تقرر والطريقة التي اتخذ بها القرار كان مزعجا ومخيبا للآمال وليس فقط لفرنسا (..) لم تساورني الشكوك أبداً بأننا لن نواجه مشاكل بعد الآن مع الرئيس الأمريكي الجديد (..) يجب أن نفكر في أوروبا في سبل تعزيز السيادة الأوروبية. يعود الأمر لنا في النهاية للقيام بذلك أم لا".
رئيس الدبلوماسية الألمانية ذهب أبعد من ذلك، معتبرا أن القرار الأمريكي الأسترالي اتجاه فرنسا "قرار مربك "ما نراه هناك جعل الكثير من الأمور أكثر صعوبة. أخشى أن يظل الأمر أكثر صعوبة لفترة طويلة.... أستطيع تفهم غضب أصدقائنا الفرنسيين جيدا". وذهب وزير الدولة الألماني للشؤون الأوروبية مايكل روث في نفس الاتجاه حين قال "علينا أن نطرح السؤال حول سبل تعزيز سيادتنا، كيف يمكننا إظهار المزيد من وحدة الصف في قضايا السياسة الخارجية والأمن". ورحبت باريس بالتحول في الموقف الألماني والأوروبي، إذ اعتبر كليمان بون الوزير الفرنسي للشؤون الأوروبية أن خلاف بلاده مع الحليف الأمريكي "قضية أوروبية" لا فرنسية فحسب، وأضاف "لا أعتقد أن فرنسا تبالغ في ردة فعلها ولا أعتقد أن على فرنسا أن تبالغ. لكن عندما يكون وضع ما مقلقا وخطيرا، فأعتقد أن مسؤوليتنا تملي علينا قول ذلك بوضوح تام".
سعي أوروبي لتفادي الصدام مع حليف لابد منه
ضعف وعجز الأوروبيين ظهر في خمسة أيام من المراوحة والتردد، قبل أن يصدر أخيرا موقف جاء على لسان ممثله الأعلى للشؤون الخارجية والأمنية جوزيب بوريل في نيويورك (الثلاثاء 21 سبتمبر/ أيلول 2021) على هامش اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في نيويورك. بوريل اعتبر الوضع "مخيبا للآمال للغاية (..) وأكد تضامن الوزراء الواضح مع فرنسا". كما أفاد بأن القضية لا تهم فرنسا فقط، بل الاتحاد الأوروبي بأسره. رئيسة المفوضية، أورزولا فون دير لاين، أعربت بدورها عن دعمها الكامل لفرنسا. وأكدت في مقابلة مع شبكة "سي.إن.إن" الأمريكية، أن المعاملة التي تلقتها فرنسا غير مقبولة. وفي مؤشر على بلورة الموقف الأوروبي، تم تأجيل محادثات مقررة بين بروكسيل وواشنطن بشأن السياسات التجارية والتكنولوجية، إذ ألغت الرئاسة السلوفينية للاتحاد الاستعدادات لعقد الاجتماع من جدول الأعمال، بعد أن كان من المقرر أن يبحث سفراء الاتحاد هذه الاستعدادات (الأربعاء 22 سبتمبر/ أيلول 2021). وألمح وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية كليمنت بون أنه لا يستبعد وقف المفاوضات الجارية بين الاتحاد الأوروبي وأستراليا بشأن إبرام اتفاقية تجارة حرة بين الجانبين.
صحيفة "نويه تسوريشر تسايتونغ" السويسرية (17 سبتمبر/ أيلول 2021) دعت الأوروبيين للتفكير في هذه القضية مع أخذ مشاغل أستراليا بعين الاعتبار وكتبت "على الأوروبيين عدم تفسير الخطوة (الأسترالية) على أنها ضربة على الرأس أو حتى طعنة في الظهر، كما فعل الفرنسيون. بالنسبة لأستراليا، لم يكن الأمر يتعلق أبدًا ببحث عن بدائل ممكنة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى من جهة والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية. كان الأمر يتعلق باختيار مسار يعبر بشكل أفضل عن موقفها تجاه عدوانية الصين وغطرستها المتزايدة. موقف أوروبا اتجاه التهديد الصيني لا يزال غير واضح. ونفس الأمر ينسحب على روسيا التي تمثل تهديدا جغرافيا أكبر بالنسبة إليها".
خيارات بروكسل المحدودة في مواجهة واشنطن
دق وزير الدولة الألماني للشؤون الأوروبية مايكل روث ناقوس الخطر وقال إنه "تنبيه للجميع في الاتحاد الأوروبي". فيبدو، أنه وعكس ما كان يعتقد، فإن "أمريكا أولا" ليس شعارا ترامبيا محضا، وإنما سياسة للدولة الأمريكية العميقة، تُجمع عليها النخب السياسية الأمريكية من المعسكرين الديموقراطي والجمهوري. وهذا ما عبر عنه وزير الخارجية الفرنسي جان ـ إيف ـ لودريان بقوله إن ما قام به الرئيس جو بايدن يؤكّد استمرار حصول "ردود فعل تنتمي لزمن كنّا نأمل أن يكون قد انتهى"، في إشارة واضحة إلى عهد الرئيس ترامب. صفقة الغواصات تعكس نهجا في تعامل واشنطن مع حلفائها، نهج ظهر واضحا أيضا في قرار الانسحاب من أفغانستان.
لودريان دعا الأوروبيين إلى "التفكير مليّاً" بالتحالفات في المستقبل حيث أكد أن "الموضوع يتعلّق في المقام الأول بانهيار الثقة بين الحلفاء" وهذا الأمر "يستدعي من الأوروبيين التفكير مليّاً" بعد أن أقصتهم واشنطنمن استراتيجيتها في المحيطين الهندي والهادئ. ورغم أن باريس هددت بأنها ستبحث مع الأوروبيين "جميع الخيارات"، إلا أنه يبدو أن أوروبا ليست في وضع يسمح لها بالدخول في صدام مع الحليف الأمريكي في وقت دخلت فيه العلاقات الدولية مرحلة تحولات عميقة لم تتضح بعد كل معالمها. وبهذا الصدد كتب موقع "شبيغل أونلاين" (17 سبتمبر/ أيلول 2021) " تتنافس الصين والولايات المتحدة على السيادة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تم دفع فرنسا من قبل واشنطن إلى دور ثانوي، فيما تواصل ألمانيا انخداعها بالصين. كل هذا ليس إلا مقدمة لصراعات (في المستقبل) أكثر خطورة بكثير؟".
الديزل أم النووي ـ رهانات تكنولوجيا الغواصات
باريس وكانبيرا وقعتا على عقد لشراء غواصات ذات محركات تقليدية تعمل بالديزل. عكس الغواصات الأمريكيةالتي تعمل بنظام الدفع النووي، ما يمكنها بالتالي من البقاء بشكل أطول تحت المياه. الخلاف الفرنسي الأمريكي له أيضا أبعاد تقنية، لها علاقة بانتشار التكنولوجيا النووية واختلاف طبيعة المحركات المستعملة في البلدين. فرنسا تملك تكنولوجيا محركات نووية تعتمد تخصيب اليورانيوم بنسبة لا تتجاوز 20 بالمائة، وهي نفس النسبة المستعملة في المحطات النووية لإنتاج الكهرباء. وهذا اليورانيوم يتعين تجديده كل عشر سنوات، وفق تقنية دقيقة في عملية خطيرة تتطلب مهارات بالغة التخصص. ويذكر أيضا أن هذه النسبة من التخصيب غير كافية لإنتاج السلاح النووي، عكس الغواصات الأمريكية والبريطانية التي تستخدم اليورانيوم عالي التخصيب يتجاوز 93 بالمائة، قادر على تشغيل الغواصات لمدة تقدر بثلاثين عاما، هذه الدرجة من التخصيب تسمح بالطبع بصنع قنبلة نووية.
ويقدر الخبراء أن مجموع الغواصات الأمريكية تستخدم حاليا كمية هائلة من اليورانيوم عالي التخصيب توازي مئة قنبلة نووية، وهو ما يفوق كمية اليورانيوم المستخدمة في جميع محطات الطاقة النووية في العالم. وبالتالي فإن صدمة الفرنسيين كانت كبيرة ليس فقط على المستوى التجاري بفقدانهم لصفقة بمليارات الدولارات، ولكن أيضا لأنها تعتقد أن ذلك سيساهم في انتشار تكنولوجيا استعمال الأسلحة النووية في خرق وتقويض للقوانين الدولية ذات الصلة.
حسن زنيند