المجتمع الألماني بين سلطة الكنيسة وتمرد جيل الشباب
منذ احتضار البابا ووفاته ووسائل الإعلام الألمانية لم تتوقف عن إفراد الصفحات الطوال من أجل حالة البابا وسيرته ومحطات حياته. ولا يعكس حجم الاهتمام الإعلامي مؤخراً بشخصية البابا الأهمية التي يشكلها للمجتمع الألماني، فالكاثوليك لا يشكلون سوى ثلث عدد السكان في ألمانيا تقريباً، وكثير منهم لا يشعر بأهمية مرجعية الفاتيكان لحياتهم الروحية، خاصةً جيل الشباب الذي يكون 25 بالمائة من السكان، إذ يعتبر الكثير من هذا الجيل أن مواقف البابا هي مواقف رجعية لا تناسب العصر الحديث. وقد تسبب البابا في إثارة ضجة كبيرة في ألمانيا بعد نشر كتابه الأخير في ألمانيا، حيث شبّه فيه الإجهاض بجرائم النازية لأن كلاهما يحرم الآخرين من حق الحياة.
بين ديمقراطية النظام وسلطوية الكنيسة
تُقدر نسبة المنتمين رسمياً إلى الدين المسيحي في ألمانيا بثلثي عدد السكان، نصفهم تقريباً ينتمون إلى الطائفة الكاثوليكية (٢٦,٦ مليون) التابعة إلى كنيسة الفاتيكان، ونصفهم الآخر (٢٦,٣ مليون) ينتمي إلى الطائفة البروتستانتية المستقلة. وباقي السكان لا ينتمي إلى دين ما، أو يتبع الأقليات الدينية مثل الإسلام أو اليهودية أو غيرهما. وهناك الكثير من الكاثوليك الذين لا يعطون الدين أهمية كبيرة في حياتهم، وحتى في نظر الكثيرين من الكاثوليك المتدينين يعتبر البابا غير معاصر خاصة بالنظر لأرائه المتعلقة بالإجهاض واستخدام وسائل منع الحمل والمثلية الجنسية.
أما الكنيسة البروتستانتية (الإنجيلية) فقد قامت على الالتزام بتعاليم الاانجيل فقط، كما انها انتقدت منذ بدايتها النظام البابوي المتسلط بشكل خاص. وجاءت الحركة البروتستانتية الإصلاحية بعد عصور من حكم السلطة الدينية الكاثوليكية المتشددة، حل فيها الظلام على أوروبا وامتدت فيها محاكم التفتيش التي أودت بحياة الآلاف من الضحايا الأبرياء. لذلك لا يخضع أتباع تلك الطائفة دينياً إلى السلطة الروحية للبابا، ولكن يدخل اهتمامهم به مدخل الاهتمام بشخصية عالمية ذات ثقل ديني مؤثر، بل أن الكثير منهم يعتبرونه مثلا أعلى وقدوة في التمسك بالايمان.
تمرد الشباب على سلطة البابا
أظهر قطاع كبير من الشباب الكاثوليك معارضتهم لأراء البابا في كثير من الموضوعات. فقد أثارت أراءه المتعلقة بتحريم وسائل منع الحمل ورفضه القاطع للإجهاض ضجة كبيرة في أوساط الشباب. وأيد كثير منهم حق المرأة في قبول للطفل أم رفضه باعتباره من حقوق الإنسان، خاصةً وأن في حالات مثل الاغتصاب لا ترغب المرأة في الحصول على هذا الطفل لأنه سيذكرها دائماً بتلك الحادثة المؤلمة. ولا يقف الجدال حول حقوق المرأة عند قضية الإجهاض، بل يدخل إلى قلب الكنيسة، لمحاولة تغيير النظام الكنسي، والمطالبة بالأدوار الريادية للمرأة في الكنيسة كأن يكون هناك "قساوسة" من النساء وهو ما رفضه البابا بشكل قاطع. كما أن عدم زواج القساوسة يثير البعض بشكل خاص لأنه يجعل آراءهم بعيداً كل البعد عن الواقع الاجتماعي
الموضوع الثاني الذي لا تحظى فيه آراء البابا بأي تفهم هو موقفه من المثلية الجنسية التي يعتبرها خروجاً على القانون الطبيعي. لذلك يرفض المثليون الجنسيون موقف الكنيسة ويعتبرونه عدواني وغير متحضر. غير أن فئة أخرى من الكاثوليك خاصةً من كبار السن تعتقد بصواب آراء البابا في هذه النقطة. ولاتقف المناقشات على الأمور الاجتماعية فقط، بل تعلو لتصل للباحثين، والذين لا يحل لهم البحث في الجينات الجنينية، مما يعطل عملهم. ويتساءلون هل لرأي الكنيسة دور في هذا القانون؟ . بشكل عام لم تعد الكنيسة مرجع بالنسبة للكثيرين خاصة في أوساط الشباب، وربما يجب أن تبدأ الكنيسة في الانفتاح والتجديد قبل أن يجمع الشباب على أن كون الإنسان مسيحي أو كاثوليكي لا يعني كونه بالضرورة مرتبطاً بالكنيسة.
محاولات البابا الدائمة لاجتذاب الشباب
من ناحية أخرى سعى قداسة البابا دوما لإقناع الشباب بأهمية القيم الروحية في عالم تطغى عليه القيم المادية، وحرص على المشاركة في الاحتفالات والندوات التي تحاول أن تقدم الدين بشكل عصري، وهذه المشاركة والاهتمام قربت الشباب منه رغم اختلافهم معه في بعض القضايا الشبابية. ويبدو أن بعض الشباب يجد في آراء الكنيسة المتشددة واحة وسط العالم الغربي الذي تسوده المادية بشكل كبير. ومن المناسبات الهامة التي واظبت الكنيسة على عقدها منذ عشرين سنة هي يوم الشباب العالمي، ويعقد هذا العام في مدينة كولونيا. وقد أولى البابا باهتمامه الكبير بهذا اليوم وبالاستماع إلى بقضايا الشباب المجتمعين.
ويجتمع الشباب الكاثوليك في هذا المناسبة من كل أنحاء العالم لمدة أربعة أيام، ليشتركوا في الحياة سويا. وبالنسبة لهؤلاء الشباب يعتبر البابا مثلاً أعلى، حتى لو اختلفوا معه في بعض الآراء. فهم في هذه الأيام يستطيعون الشعور بالانطلاق والحيوية، مما ينسيهم ما يقولونه عن كون الكنيسة غير معاصرة. ويزيد العدد الكبير المشارك في مثل هذا اليوم من حماس الشباب ويجذبهم للكنيسة من جديد. ويؤكد العديد من الأهل على دور البابا في تقريب الشباب من الكنيسة.