درّس أولاً - مبادرة من أجل تكافؤ فرص التعليم
٢٣ مارس ٢٠١٠تشير الساعة إلى الثامنة صباحا، وعلامات التعب ما تزال بادية على وجوه التلاميذ في فصل البيولوجيا. أمامهم على الطاولات توجد صحون صغيرة عليها قطع جزر وخبز يابس، فدرس اليوم يدور حول تحليل هذه القطع وتحديد نسب الفيتامينات المختلفة التي تحتويها. المعلمة كريستينة لاغمان هي الوحيدة التي تبدو على محياها علامات النشاط، وهي تنتقل من طاولة الى أخرى لتساعد التلاميذ وتجيب على أسئلتهم.
لكن التدريس ليس المهنة الحقيقية لكريستينة لاغمان، التي تنتمي الى نخبة من أفضل خريجي الجامعات في ألمانيا. فقد حصلت على شهادتها الجامعية في تخصص الطب الجزيئي بتفوق. وبدلاً من التوجه إلى الولايات المتحدة لنيل شهادة الدكتوراة، قررت الشابة الألمانية التدريس في مدرسة في أحد أحياء برلين، وذلك في إطار مبادرة منظمة "درّس أولا". وتقضي هذه المبادرة بإرسال الأدمغة الشابة إلى المدارس التي ينتمي أغلب تلاميذها لعائلات تعاني من مشاكل اجتماعية.
عوالم مختلفة
فالعالم الذي تعيش فيه يختلف تماما عن عالم هؤلاء الأطفال، كما تقول كريستينة لاغمان البالغة خمسة وعشرين عاما. لكنها تعتبر هذا الاختلاف "فرصة كبيرة أستطيع من خلالها تقديم ما تعلمته في حياتي، وأن أساعد الآخرين على ربط علاقات، ربما كان من المستحيل تحقيقها". اختلاف العالمين يعود بالدرجة الأولى الى ارتباط الفرص التعليمية في ألمانيا بالظروف الاجتماعية لعائلات التلاميذ والطلاب. فحسب الإحصائيات يحصل أطفال العائلات الميسورة وذات المستوى الأكاديمي العالي على فرص تعليمية أفضل من أطفال العائلات التي تعاني من مشاكل اجتماعية، كعطالة الأبوين، أو إدمانهما على الكحول والمخدرات. إضافة إلى ذلك يحدد النظام التعليمي الألماني مسيرة التلاميذ في وقت مبكر حسب أدائهم المدرسي، الأمر الذي يجعل المسيرة التعليمية لتلاميذ من أوساط عائلية مختلفة لا تتقاطع إلا نادرا. لذا تطمح مبادرة "درّس أولا" للتخفيف من أثار الفوارق الاجتماعية على المسيرة التعليمية.
كريستينة لاغمان هي إحدى خريجي الجامعات الستة وستين الذين يدّرسون الآن في إطار المبادرة في مدارس تقع في أحياء فقيرة في مختلف أنحاء ألمانيا. هدف المبادرة التي يشارك فيها أكثر من سبعمائة خريج جامعة ألماني، هو تحقيق تكافؤ أفضل للفرص داخل المجتمع، كما تقول كايا لاندسبيرغ التي استوحت الفكرة من مبادرة أمريكية تحمل نفس الإسم. فالمهم ليس "تقديم حصص إضافية في مختلف المواد للتلاميذ، وإنما مساعدتهم في المجالات العملية كتقديم طلبات القبول أو التوسط من أجل الحصول على دورات تدريبية مثلا. فأطفال العائلات ذات المستوى التعليمي العالي يحصلون على مثل هذا الدعم بشكل بديهي كما توضح كايا لاندسبيرغ. بينما "يبقى ذلك بعيد المنال بالنسبة لأطفال العائلات التي لم يحصل الأبوان فيها على شهادات أكاديمية."
لا تعويض عن المدرسين الفعليين
وهذه هي مهمة كريستينة لاغمان وزملائها. فقواعد مبادرة "درس أولا" لا تقضي بأن يحل هؤلاء محل المدرسين الحقيقيين، وإنما أن يساعدوهم فقط . لذا يعمل كل واحد منهم مع مدرس واحد وتحت إشرافه، ويتعلمون في الوقت ذاته القواعد التربوية، وكيفية التواصل مع التلاميذ. مهمة ليست بالسهلة، خاصة مع ازدياد حدة المشاكل العائلية التي يعاني منها الأطفال، كما تروي كريستينة لاغمان، والتي ترى في هذه المسألة تحديا كبيرا بالنسبة لها. فليس من السهل الوصول إلى هؤلاء التلاميذ أو تحميسهم على القيام بواجباتهم المدرسية، لأنهم لا يرون أي جدوى في الذهاب إلى المدرسة، كما توضح كريستينة لاغمان."أقول لهم إن مخرجهم الوحيد هو النجاح في الدراسة، لكن هذه عملية معقدة يجب أن أتعلمها."
وتبقى الأنشطة الرياضية المشتركة وسيلة جيدة للوصول الى مثل هؤلاء التلاميذ. لكن ذلك يتسنى لكريستينة لاغمان أيضا من خلال تنظيم زيارات جماعية لمنشآت جامعية، مثلما فعلت عندما اصطحبت التلاميذ الى مختبر مستشفى الشاريتيه في برلين، حيث كانت تقوم بتجاربها العلمية أثناء فترة دراستها. وخلال الزيارة الأولى استطاعت كريستينة لاغمان أن تتوسط لإحدى التلميذات للقيام بدورة تدريبية في المختبر أثناء العطلة المدرسية. خطوة صغيرة قد تغير الآفاق المستقبلية لهذه التلميذة وتمنح كريستينة لاغمان شعوراً بالإعتزاز.
الكاتبة: أنـة كورفيس/خالد الكوطيط
مراجعة: منى صالح