ذكرى التوسع شرقا ـ وزن الاتحاد الأوروبي في جيوسياسية العالم
٤ مايو ٢٠٢٤مع التوسع شرقا قبل عشرين عاما ارتفع عدد سكان الاتحاد الأوروبي إلى 450 مليون نسمة ليصبح بذلك أحد أكبر الأسواق في العالم. أما التأثيرات الجيوسياسية لهذا الحدث فلا تزال ارتداداتها تؤثر على الواقع الأوروبي والعالمي إلى اليوم. وتعود جذور توسيع الاتحاد الأوروبي شرقاً إلى مرحلة الحرب الباردة، فبعد سقوط الستار الحديدي وانهيار مجال النفوذ السوفييتي في أوروبا الشرقية في تسعينيات القرن العشرين ظهرت دول ديمقراطية جديدة حررت نفسها من ماضيها الشيوعي. وسعت هذه الدول إلى الاندماج في الهياكل الغربية لضمان الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية والأمن، بل وسعت هذه الدول لتأسيس هوية جديدة لها تتماهى مع الحلم الأوروبي.
وبهذا الصدد اعتبرت صحيفة "نويه تسوريخَر تسايتونغ" معلقةً (في الثاني من مايو / أيار 2024) أن ما أسمته بحدث "الانفجار العظيم" الذي شهدته أوروبا عام 2004، كان واحداً من الوعود التاريخية النادرة التي تم الوفاء بها بالفعل واستطردت بهذا الصدد قائلة "إن الجولة الرئيسية من عملية التوسيع -لتشمل ثماني دول من أوروبا الشرقية بالإضافة إلى مالطا وقبرص- جعلت الاتحاد الأوروبي أقوى وأكثر سلمية وأكثر أوروبية (...) أما الجولة التالية من التوسيع (التي ستشمل أوكرانيا وغرب البلقان) سوف تكون مدفوعة بالسياسة الأمنية". انضمام أعضاء جدد للتكتل القاري غيَّرَ طابع الاتحاد وقواعد صنع القرار فيه وفق الصحيفة السويسرية الناطقة بالألمانية.
برلين: التوسيع شرقا جلب فوائد للتكتل الأوروبي برمته
أشادت برلين على لسان وزيرة الخارجية آنالينا بيربوك (في الأول من مايو/ أيار 2024) بنتائج انضمام دول شرق أوروبا إلى الاتحاد الأوروبي قبل 20 عاما، معتبرةً أن ذلك جلب فوائد للتكتل برمته. واعتبرت بيربوك أن ذلك الانضمام جعل المجموعة الأوروبية أكثر قوة وأمانا، واصفة ذلك الحدث بـ "لحظة لا تُصدَّق" وقالت بهذا الصدد "عندما وجدنا كدول وكمجتمعات وكقارة أوروبية،القوة للتغلب على تقسيم أوروبا، وأننا في الوقت نفسه أصبحنا أخيرا تجمعاً للسلام والحرية (..) نحن نشهد اليوم أننا كاتحاد أوروبي يضم الآن 27 دولة، صرنا أقوى"، واعتبرت أن تلك القوة لا تتجلى في الأرقام والمعطيات الاقتصادية فقط، ولكن أيضا من حيث المنفعة التي تقدمها أوروبا للناس يوميا، كحرية التنقل عبر الحدود والتعاون المشترك بين الشرطة والجمارك أو في العلاقات الكثيرة بين الأشخاص عبر الحدود. واستطردت بيربوك موضحة "نعتقد أننا بحاجة إلى هذه المسؤولية الشجاعة مرة أخرى وبالذات اليوم من أجل تحويل اتحادنا الاقتصادي والتجاري المشترك إلى اتحاد أمني وسياسي".
صحيفة "فرانكفورتَر ألغماينِه تسايتونغ" (في 30 أبريل / نيسان 2024) نشرت نتائج دراسة كشفت أن "جميع دول شرق أوروبا الوسطى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حققت ما لا يقل عن 70 في المئة من متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لدى الدول الأعضاء الـ 27"، فيما لم تكن هذه النسبة تتجاوز 30% عام 2004. وبالتالي يمكن استنتاج أن مواطني الدول المنضمة أصبحوا أكثر ثراء والعديد منهم حصلوا على تعليم أفضل وفق الصحيفة الألمانية، التي استطردت أن حتى الزيادات في الأجور كانت ضعف ما كانت عليه في بقية دول الاتحاد. كما أن معدلات البطالة أصبحت من بين أدنى المعدلات في الاتحاد الأوروبي، غير أن السبب "ليس نتيجة للاقتصاد الجيد القائم منذ فترة طويلة فحسب، بل أيضاً بسبب الهجرة وانخفاض معدل المواليد".
مزايا ومعضلات الوزن الجيوسياسي الجديد
ساهم توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً في زيادة دائرة نفوذ التكتل وإعادة تشكيل التوازن الجيوسياسي في أوروبا. فمن ناحية أدى ذلك إلى زيادة السوق الداخلية للاتحاد وإلى خلق فرص جديدة للتجارة والاستثمار. كما لعبت العملة الموحدة في منطقة اليورو دورا مهما في هذا الصدد، وفي الوقت نفسه شكّل ذلك تحدياً أمام التكتل فيما يتعلق بالمؤسسات والتمويل والتكامل السياسي. فالأعضاء الجدد من أوروبا الشرقية لهم مستويات اقتصادية ودخل أقل مقارنة بدول أوروبا الغربية، لذا يعمل الاتحاد الأوروبي على توفير موارد مالية كبيرة لدعم عملية اللحاق الاقتصادي في هذه البلدان، ويأخذ ذلك شكل صناديق هيكلية وصناديق تماسك بالإضافة إلى برامج دعم أخرى.
صحيفة "ميركيشه أودَر تسايتونغ" الألمانية (في الأول من مايو / أيار 2024) كتبت معتبرةً أن "كل الأوروبيين استفادوا من توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً من النواحي الاقتصادية والتاريخية والاجتماعية (...) ولكن أيضا من الناحية الجيوسياسية، فقد نمت أوروبا ككتلة مرة أخرى، بعد الانقسام الذي أعقب الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من المشاكل المتبقية فقد تطورت الدول المجاورة بشكل جيد لدرجة أنه يمكن للمرء اليوم أن يتعلم من التطور الذي عرفه شرق القارة في العديد من المجالات، على سبيل المثال: من حيث الرقمنة والبراغماتية الاقتصادية والواقعية السياسية الأمنية. ومع ذلك يجب التريث والنظر بعناية في مشاريع التوسع المقبلة، فالاتحاد الأوروبي لا يزال غير مهيئ للتعامل مع هذا العدد الكبير من الدول الأعضاء، وهذا يجعله في كثير من الأحيان غير قادر على التحرك، كما أن الإصلاحات مطلوبة وضرورية قبل أن تُسمع أناشيد الفرح في العواصم الأوروبية الأخرى".
ظلال توسيع الاتحاد الأوروبي تخيِّم على علاقاته مع روسيا
التوسع شرقا زاد من تعقيد التكتل الأوروبي مع روسيا حيث أثار ردود فعل وتحديات من جانب روسيا التي كانت ولا تزال تنظر إلى العملية برمتها بمزيج من الاهتمام والقلق. فمن ناحية رأت روسيا في التوسع فرصة لتعاون اقتصادي أوثق وإمكانية لتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، ومن ناحية أخرى كانت روسيا تخشى -منذ البداية- أن يؤثر ذلك على مصالحها الجيوسياسية ونفوذها في أوروبا الشرقية، غير أن موقف روسيا زاد تشددا في السنوات الأخيرة -حتى قبل عدوانها على أوكرانيا- حيث رأت توسع التكتل تهديداً لمجال نفوذها ودورها التقليدي كقوة مهيمنة في المنطقة، وهذا أدى إلى عدد من التداعيات على قضايا الأمن والطاقة وحقوق الإنسان. أما الاتحاد الأوروبي فيرى -من جهته- أنه يدافع عن منظومة قيم تتعارض في نواحٍ كثيرة مع النظام الاستبدادي المنتهَج في موسكو.
صحيفة "فرانكفورته روندشاو" الألمانية (في عددها الصادر بالأول من مايو / أيار 2024) رأت أن "نجاح توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً يُظهِر أن التكتل قادر على القيام بما هو أكثر مما ينتقده به المتشككون، لأن ما يحتفل به الجميع -تقريباً- اليوم كان مثيراً للجدل قبل عشرين عاماً (...) وكان ذلك سبباً للتنبؤ بتراجع مستوى الرفاهية والرخاء أو حتى انهيار التحالف. ولذلك فإن النتيجة الإيجابية للتوسع شرقاً هي سبب آخر لكي نكون أقل يأساً بشأن معالجة التحديات القادمة مثل الانضمام الموعود لأوكرانيا أو دول البلقان. وبالتالي ينبغي عدم تخفيف صرامة معايير التكتل، ولا بد من ربط التمويل بالقيم الأوروبية، لأن هذا لن يسمح فقط للاتحاد الأوروبي بالنمو بل إنه أيضاً سيحد من نفوذ روسيا. ومن غير الممكن أن ينجح هذا إلا إذا بادر الاتحاد الأوروبي أخيراً إلى مباشرةِ تنفيذِ الإصلاحات المستحقة. فهناك السياسة الزراعية والتوازن بين المناطق القوية والضعيفة اقتصاديا، وكذلك مبدأ الإجماع في اتخاذ القرارات، ومن شأن ذلك أن يكون فرصة لتحويل التحالف الاقتصادي إلى تحالف سياسي".
أوكرانيا في قلب مشاريع توسع الاتحاد الأوروبي الجديدة
بعد عشرين عاماً من موجة الانضمام الأولى لدول الكتلة الشرقية السابقة يتجدد الجدل كل مرة حول إنْ كان بإمكان التكتل استيعاب بلدان جديدة وعلى رأسها أوكرانيا دون الدخول في احتكاك مباشر مع روسيا. فمنذ استقلال أوكرانيا -في عام 1991 في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي- شهدت البلاد تنمية سياسية واقتصادية صعبة. فقد اُبتليت البلاد بالفساد وعدم الاستقرار السياسي والتحديات الاقتصادية. ومع ذلك اتخذت أوكرانيا خطوات مهمة لإصلاح نفسها سياسيا واقتصاديا منذ ما يسمى "ثورة الكرامة" في عام 2014، التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش. وكان توقيع اتفاقية الشراكة بين التكتل القاري وأوكرانيا عام 2014 بمثابة علامة فارقة في العلاقات بين الطرفين، وتضمنت الاتفاقية التكامل الاقتصادي العميق وكذلك التعاون السياسي في مجالات مثل الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان. وبالنسبة لأوكرانيا كان ذلك بمثابة إشارة واضحة إلى عزمها على مواءمة نفسها بشكل أوثق مع القيم والأعراف الغربية، وهو بالطبع ما أثار حفيظة الجار الروسي.
ومن جانبه دعم الاتحاد الأوروبي أوكرانيا سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً في مواجهة العدوان الروسي، وكانت العقوبات ضد موسكو جزءاً من الجهود المبذولة لمرافقة أوكرانيا في طريقها نحو الإصلاح. وبهذا الصدد كتب موقع "شبيغل أونلاين" (في الأول من مايو / أيار 2024) معلقاً: "منذ سقوط الجدار [جدار برلين] كان الاتحاد الأوروبي ينظر إلى نفسه في المقام الأول باعتباره تجمعاً اقتصادياً، وبالتالي كان من المنطقي أن يُنظَر إلى توسعه في المقام الأول باعتبارها مشروعاً اقتصادياً. ومن ناحية أخرى فإن الصراع مع موسكو يحول أوروبا إلى اتحاد أمني يحتاج إلى إعادة التفكير في العديد من الأمور، والتوسع شرقا هو الفرصة لذلك"، وفق ما تقول الصحيفة الألمانية.
الاتحاد الأوروبي - أكثر من مجرد تكتل اقتصادي
كل الدول المنضمة استفادت من التكتل القاري، وأول ما يلفت انتباه بهذا الشأن هو المزايا الاقتصادية، فقد تمكنت الشركات الألمانية على وجه الخصوص من تأمين أسواق كبيرة في بولندا وجمهورية التشيك، ففي عام 2023 صدَّرت ألمانيا بضائع بقيمة 18 مليار يورو إلى سلوفاكيا الصغيرة وحدها، أي أكثر من الهند. ولكن الاتحاد يسعى إلى أن يكون أكثر من مجرد تجمع اقتصادي بل يزيد على ذلك ليكون تكتلا يقوم على قيم مشتركة، وتقوم هذه القيم على احترام الكرامة الإنسانية ويعني ذلك أن كل شخص يُعامَل على قدم المساواة وباحترام، بغض النظر عن أصله أو دينه أو جنسه أو أي خصائص أخرى. كما يعزز الاتحاد الأوروبي الحرية الفردية لمواطنيه، بما في ذلك حرية التعبير وحرية الدين وحرية الصحافة وحرية التنقل داخل منطقة الاتحاد الأوروبي.
وتشكل المبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان العمود الفقري للاتحاد الأوروبي حيث يشارك المواطنون في القرارات السياسية من خلال ممثليهم المنتخبين. إضافة إلى المساواة أمام القانون لجميع الناس ومكافحة التمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو التوجه الجنسي أو الإعاقة أو العمر.
حسن زنيند