أزمة الإعلام الليبي بين المصادرة والفشل
١٥ نوفمبر ٢٠١٠ما جرى في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، على صعيد المشهد الإعلامي الليبي، لم يكن الا واحدة من حالات الفوضى و الغموض التي ليست بالغريبة عنه، وإن اكتسبت هذه المرة بعدا خاصا كون أحداثها جرت علانية دون أي تفسير واضح.
ووفقا لرواية رئيسة تحرير صحيفة "أويا" فقد استدعاها صباح الاربعاء( 3 نوفمبر/تشرين الثاني) أمين (وزير) الهيئة العامة للثقافة لينقل اليها أوامر أمين اللجنة الشعبية العامة (رئيس الوزراء) بوقف الإصدار الورقي لصحيفتها المملوكة لشركة "الغد" التي يدعمها سيف الإسلام القذافي بقوة ولكنه لا يملكها. وصحيفة "أويا" هي احدى أسبوعيتين تم منعهما سابقا من الصدور اليومي وان استمرتا إليكترونيا.
الا ان رئيسة التحرير وفق روايتها وفي غياب أي أوامر مكتوبة أرسلت العدد الى المطبعة، على أمل أن يصدر صباح الخميس ، وهو ما لم يحدث. لكن العدد صدر صباح الأحد الموالي وتحت اسم "صباح أويا" وبنفس المادة المعدة للعدد العادي وباسم رئيسة التحريرنفسها. فتبرأت الصحيفة الأصلية منه عبر بيان هزيل شدد على ان لا علاقة للصحيفة الأصلية ب المولود الجديد المسمى "صباح أويا".
وفي نفس اليوم، الأحد، ألقى جهاز الأمن الداخلي القبض على عشرة صحافيين يعملون في وكالة أنباء "ليبيا برس" التي تملكها أيضا شركة "الغد" وتتخذ من لندن مقرا لها ــ الي جانب "قناة المتوسط" الفضائية المملوكة لنفس الشركة. وفي صباح اليوم التالي، الإثنين، تم أعتقال عشرة صحافيين آخرين ليخرج الجميع من الإعتقال في ساعة متأخرة من ليل الإثنين بأوامر من الزعيم الليبي معمر القذافي، الذي أمر أيضا بالتحقيق في ملابسات الحادث. وفي أثناء كل هذه الوقائع كان سيف الإسلام في زيارة الى الجزائر، فيما كان رئيس مجلس ادارة شركة "الغد" في لندن ليخرج من هناك عبر أحد القنوات الفضائية معلنا استقالته من منصبه!
فما هي أسباب ما حدث وهل للأمر علاقة بصراع أجنحة كما يقول بعض المعلقين خارج ليبيا أم ان الأمر محصورا في حرية الصحافة؟
صراع أجنحة أم قضية حرية صحافة؟
لا أحد ينكر أن مشروع "ليبيا الغد" -الذي يقوده سيف الإسلام القذافي والرامي الى تحديث البلد وتطوير أداء مؤسساته بعد عقود من العزلة الدولية- يلقى تأييدا واسعا خاصة في أوساط الشباب الذين يشكلون نصف السكان، ولكنه ايضا يلقى معارضة خفية داخل أجهزة الدولة أي داخل البيروقراطية الحكومية وبعض من الأفراد النافذين داخل الأطر الرسمية.
ان عملية التغيير في أي مجتمع ليست بالأمر الهين ولا هي بالمقبولة عموما، فما بالك و الحال أن المجتمع الليبي يعاني من أمراض أخرى على رأسها تركيبته البدوية وخصوصيته القبلية، التي تجعله يميل الى اعتبار تجاوز الواقع الراهن أمرا معقدا وغير مستحب. و تواجه عملية التغيير في المطلق، دائما، معارضين غالبا ما يشكلون تحالفا غير معلن ويتمحور حول ضرورة استمرار الوضع الراهن، لأنهم أصحاب مصلحة حقيقية فيه.
وفي حالة ليبيا هنالك عدد كبير جدا من كوادرالدولة (أطر وكبار الموظفين) الذين يعارضون مشروع التغيير لأنهم مستفيدون من مزايا الفساد وغياب حكم القانون وتفكك ادارات الدولة وسوء ادائها. وهم في معارضتهم تلك يتقنون اللعبة جيدا، فبدل المواجهة يميلون الي التخفي وتصيد اخطاء الكوادر و المؤسسات التي تم استحداثها (رغما عنهم في معظم الأحوال)،بدفع من سيف الإسلام القذافي.
وبكل أسف فان سيف الإسلام، نفسه، لم يقدم نموذجا ناجحا للتغيير حتى الآن و لم يطرح رؤية متكاملة بل ان المؤسسات التي استحدثها وعلى رأسها شركة "الغد للخدمات الإعلامية" قادها اناس تعوزهم المهنية و المصداقية و ينتمي بعضهم الى فئة الليبين الذين أقاموا خارج البلد لفترات طويلة، مما جعلهم غير قادرين على التأقلم مع ظروف العمل فيها. وأغلب هؤلاء هم في الحقيقة نكرات للمجتمع الليبي بل ان بعضهم انتمى في فترات معينة الي تنظيمات تعتبرها الدولة الليبية غير قانونية فيما تعتبر هي نفسها معارضة.
وأكبر مثال على ذلك هو شركة "الغد" نفسها، فمنذ تأسيسها منذ أقل من خمس سنوات تغيرت ادارتها وقيادتها العليا أكثر من ثلاث مرات وتمت مصادرة صحفها اكثر من مرة فيما تم اجبارها على التخلي عن قناتها الفضائية التي أطلقتها اول مرة عام 2007 بأسم "الليبية الفضائية" لتعيد بعثها من جديد من الأردن تحت اسم "المتوسط" بخسائر مالية تقدر بتسعة ملايين دولار لتتوقف من جديد وتستأنف اخيرا بثها من لندن، وهي رهينة لتراكم الديون عليها. و الملاحظ ان الذين قادوا الشركة من البداية ليسوا مؤهلين بل ان بعضهم يفتقد لمبادئ العمل الإعلامي والصحفي.
كما تعاني الشركة من قلة التمويل وتحوم حولها شبهات فساد واضحة وتعوزها الكوادر المؤهلة. هذا الوضع وفر لمعارضين، وجود الشركة كرأس حربة لمشروع "ليبيا الغد"، السلاح الذي حاربوها به.
مقاومة الإصلاح
ويكاد الأمر الذي مرت به هذه المؤسسات الاعلامية، أن ينطبق على عدد من المؤسسات الأخرى، منها الصناديق الإستثمارية و المجالس الإستشارية. ففي أقل من أربع سنوات بعد تأسيسه يجري الآن الحديث عن الغاء " مجلس التطوير الإقتصادي" وهو مجلس ذو طبيعة استشارية من المفترض ان يلعب الدور الرئيس في رسم سياسات الإقتصاد الوطني و اعادة تاهيل كوادر الدولة الليبية فيما يعاني "صندوق الإنماء الإقتصادي و الإجتماعي" الإستثماري من صعوبات عديدة تعود في أغلبها الي غياب الرؤية و فقدان المصداقية وشبهات الفساد المالي.
ان ما جرى في المجال الإعلامي مرشح للتكرار في مجالات اخرى لأسباب ليست بالضرورة مرتبطة بحرية التعبير كما يعتقد اغلب المحللين بل أحيانا كثيرة مرتبط بمحاربة مشروع التغيير نفسه.
وجدير بالذكر ان عمر الصحافة الليبية يناهز المائة عام و تمتعت في العقدين الأخيرين بهامش حرية كبير خاصة في انتقاد اداء مؤسسات الدولة، بل ان بعض الصحف تخصص صفحات كاملة لانتقاد اداء القطاع العام وهي مقارنة ببعض الدول المجاورة تتمتع بهامش حرية أكبر خاصة في هذا الشأن. الا ان ظهور منافس جديد لإعلام الدولة متمثل في شركة "الغد" خلق نوعا جديدا من الأعداء، انه المؤسسات الإعلامية التي تسيطر عليها الدولة من التلفزيون الى الصحف وحتى توزيع الصحف الأجنبية.
ويتسم أداء كافة تلك المؤسسات بالتخلف و الاحباط وافتقاد المهنية بل وساهمت بعجزها في تكريس الصورة السلبية عن ليبيا في الخارج، ولم تحسن حتى توظيف الإنجازات التي حققتها ليبيا دبلوماسيا وسياسيا، وبالتالي ليس سهلا أن تقبل تلك المؤسسات ومن يقودها أي منافسة هم عاجزون عن مجاراتها. كما أن قصور تلك المؤسسات يعتبر السبب الأول في النجاح السريع الذي حققته شركة "الغد" كون صحفها و محطتها التلفزيونية ظهرت في وسط لا منافس محلي حقيقي فيه، الا انها لم تحسن توظيف نجاحها بل أصابها الغرور متجاهلة حساسية الإعلام في البلد.
ولكن لا يمكن انكار ان ليبيا ليست كأي دولة غربية، وستظل الصحافة فيها تعاني من قيود و حواجز بعضها مبرر وأغلبها لا يمكن تبريره. بيد أن فشل البديل (شركة الغد مثلا) في تقديم نفسه يتيح الفرصة امام "اعلام الدولة" للإستمرار رغم تخلفه وفشله الذريع.
مصطفى فيتوري، رئيس قسم إدارة الأعمال في الأكاديمية الليبية للدراسات العليا - طرابلس
مراجعة: منصف السليمي