التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للوحدة الألمانية
١٢ يناير ٢٠٠٥
يشكل انهيار سور برلين في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 منعطفا هاما في تاريخ البشرية بالكامل، فقد سجل هذا الحدث نهاية حقبة تخللتها اكثر الصراعات دموية وتعقيدا في العالم، بدءا بالحرب العالمية الثانية وتقسيم المانيا الى مناطق نفوذ لدول الحلفاء المنتصرة في تلك الحرب وانتهاء باستعار الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي الشرقي والرأسمالي الغربي. وقد شكلت المانيا بشطريها بحكم دورها المركزي في الصراع وموقعها الفاصل بين المعسكرين حلبة الصراع الرئيسة بين دول حلف شمال الاطلسي وحلف وارسو. وبعد زوال تلك التعقيدات وتوحيد الالمانيتين وجد صناع السياسة انفسهم امام كم هائل من التحديات والعقبات التي تحول دون تحقيق الوحدة بالشكل الكامل.
تنامي الدور السياسي
يمكن القول ان الوحدة ساهمت وبدون ادنى شك في زيادة ثقل المانيا على الساحة السياسية الدولية وحررتها من الكثير من القيود التي فرضتها الحرب الباردة كما انها عززت من ثقتها بنفسها من خلال حضورها العسكري في مناطق الازمات. ولعل ارسال قوات المانية الى كوسوفو وافغانستان ومشاركة سفن حربية المانية في مراقبة المعابر الدولية في منطقة القرن الافريقي في اطار الحرب على الارهاب لدليل واضح على دور المانيا الموحدة المتنامي على الساحة الدولية. وقد اظهرت معارضة حكومة المستشار جيرهارد شرودر العلنية والواضحة للحرب على العراق مدى استقلالية وتحرر السياسة الخارجية الالمانية من الهيمنه الامريكية. ويمكن القول ان كل هذه المواقف ما كانت لتحدث ـ على الاقل بهذا الوضوح ـ لو لم تتوحد المانيا، حيث لم يكن من الممكن ان ترفع المانيا صوتها في وجه القوة العظمى الولايات المتحدة الامريكية خوفا من فقدان مساندة الاخيرة لها في وجه الغول الشرقي آنذاك الاتحاد السوفيتي. ولا شك ان الوحدة الالمانية عززت ايضا من ثقل ودور المانيا داخل الاتحاد الاوروبي، فالمانيا الموحدة هي اكبر عضو في الاتحاد الاوروبي من حيث عدد السكان وهي صاحبة اضخم واقوى اقتصاد في اوروبا.
اما على الصعيد الداخلي فقد احدثت الوحدة الالمانية تغيرات جمة في الخارطة السياسية والجغرافية والديمغرافية للبلاد. فبتوحيد شطري المانيا انضمت خمس ولايات شرقية الى الولايات الإحدى عشرة في المانيا الغربية، مما شكل نموا ديمغرافيا بواقع 16 عشر مليون نسمة ليصبح التعداد النهائي لسكان المانيا الموحدة 82 مليون نسمة. هذا النمو السكاني اعاد خلط الخارطة الحزبية والبرلمانية الالمانية وذلك من خلال بروزحزب الاشتراكية الديمقراطية (PDS) الذي يتمتع بقاعدة عريضة عند الالمان الشرقيين ويشارك في الائتلاف الحكومي في ولاية مكلينبورن فوربومرن وقبلها في ولايات اخرى. وعادة ما يقدم هذا الحزب نفسه في الحملات الإنتخابية على انه نصير القضايا التي تخص الشرقيين، الامر الذي تعتبره الاحزاب الغربية عائقا امام دثر مفهوم شرقي وغربي للأبد.
من جهة اخرى ادى انضمام الولايات الجديدة الى مجلس الولايات الى تغيرات في نسب الاغلبية وبالتالي في موازين القوى لصالح هذا الحزب او ذاك، وهذا من شأنه ان يؤثر كثيرا على عملية تمريرالكثير من القوانيين التي تصدرها الحكومة الاتحادية ولا بد من تصديق مجلس الولايات عليها قبل ان تصبح سارية المفعول.
ولا بد هنا من الاشارة هنا الى ان المستشار الالماني جيرهارد شرودر ما كان لينجح في انتخابات عام 2002 بدون اصوات الالمان الشرقيين التي رجحت كفته باغلبية بسيطة مقابل مرشح المعارضة.
معجزة اقتصادية لم تتحقق
على الصعيد الاقتصادي يبدو ان تبعات وسلبيات الوحدة فاقت بكثير توقعات الساسة الالمان، فقد بلغت تكاليف الوحدة حتى الان ما يزيد عن 1500 مليار يورو، انفقت معظمها في مشاريع البنية التحتية وفي انظمة الرعاية الصحية والتقاعد. وفي مقال له في صحيفة فرانكفورتر الغماينة تسايتونغ كتب مدير مركزجامعة برلين الحرة للابحاث المتخصصة في شؤون المانيا الشرقية كلاوس شرودر يقول: "لقد حاولت جميع الحكومات الالمانية عدم الكشف بامانة عن التكاليف المترتبة على الوحدة الالمانية تفاديا لنشوء مظاهر الحسد والتذمر تجاه الالمان الشرقيين".
وما زال الالمان الشرقيون يتذكرون شعارات هيلموت كول في اول انتخابات جمعت بين شطري البلاد عام 1990 عندما وعد بتحقيق "معجزة اقتصادية" في الشطر الشرقي على غرار تلك التي تحققت في المانيا الغربية عقب الحرب العالمية الثانية. ولكن يبدو ان تجاوز آثار 40 عاما من الاداء الاقتصادي السيء لحكومات المانيا الشرقية لن يتم بين ليلة وضحاها، كما ان التحول من نظام الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق لن يكون بالسهولة التي توقعها الساسة الالمان، فانتاجية الشركات والمصانع هناك لا تعادل نصف مثيلاتها في المانيا الغربية كما ان تلك المصانع قديمة وغير قادرة على انتاج ماركات قادرة على المنافسة في اسواق اوروبا الغربية.
هذا كله ادى الى اعلان عدد هائل من الشركات الشرقية عن افلاسها في فترة وجيزة جدا، الامر الذي ادي الى ارتفاع حاد في اعداد العاطلين عن العمل هناك وهى المشكلة التي تحاول الحكومة الالمانية ايجاد حل لها منذ سنوات.
تقارب ثم تباعد
على الصعيد الاجتماعي هناك تباين واضح في مواقف الالمان من الوحدة. فبعد الاحتفالات الشعبية العفوية والمعانقات الحارة التي اعقبت انهيار سور برلين، عادت الخلافات والمنافسة بين المجتمعين تطفو على السطح. هذا ما اشار اليه عالم الاجتماع هاينز بوده في كتابه "الامة الساخرة" الصادر في هامبورغ عام 1999 والذي اشار فيه الى ان استخدام تسميات مثل "غربيين" و "شرقيين" لم يقل بعد الوحدة وانما زاد وتفاقم، مؤكدا فرضيته هذه بالقول: "كلما اقترب المرء من الآخر، كلما زادت رغبته في الابتعاد".
هناك ظاهرة اجتماعية اخرى تركت آثارا سلبية في المجتمع الشرقي وهي هجرة الشباب الشرقيين الى الشطر الغربي بحثا عن فرص افضل للعمل. وقد درج القول ان الزائر لمدن المانيا الشرقية لا يجد امامه سوى العجزة واطلال النظام السابق، مما دفع الحكومة الالمانية للعمل جاهدة من اجل الحد من هذه الظاهرة وذلك من خلال انشاء بنية تحتية اقتصادية واجتماعية جيدة. وقد قامت الحكومة في هذا السياق بتقديم تسهيلات ضريبية للشركات الكبرى للاستثمار في الشطر الشرقي أملا منها في انقاذ البنية الاجتماعية والحد من البطالة وقوة التيار النازي المتننامي بين الشباب.