الشاعر السوري فرج بيرقدار: "أمثولات الرعب تعشعش في ذاكرة الناس"
١ أبريل ٢٠١١الشاعر السوري فرج بيرقدار، قضيت في السجون السورية أربعة عشر عاما كمعتقل سياسي، هذه السنوات وصفتها أجل الوصف في روايتك التي تحمل عنوان " خيارات اللغة والصمت، تغريبتي في سجون المخابرات السورية" ومن يقرأها يشعر بأن الكاتب ما يزال سجينا، فهل هذا الشعور صائب وهل أنت مازلت في سجن؟
قد يكون هذا الكتاب أصعب معاناة عانيتها في كتاباتي طوال تاريخ حياتي، الحقيقة أنا كتبته خلال 3 شهور ونصف وأنا في السجن، وسبب الضغط في هذا الوقت هو إحساسي بأن وضعي الصحي مهدد، وبالتالي قررت أن أنزل هذا الواجب عن كاهلي. كتبته فوق ورق سجائر. ولا أخفي أنني عندما كتبته عشت التجربة مرة ثانية بكل مراحلها، بدءا من الاعتقال إلى التحقيق والتعذيب والضغوط بكل أشكالها، التي تعرض لها السجناء السياسيون في سوريا، وبالتالي أنا سجنت مرتين، مرة في السجن مدة 14 سنة، وسجن مكثف بالمعنى الأدبي، بمعنى استحضار الذاكرة أهم محطات فترة الاعتقال، أنا في الحقيقة كتبت الوقائع، واعتنيت فقط بالأسلوب الكتابي، واحتفيت باللغة، واحتفائي باللغة ساعدني على تخفيف جرعات الألم بالتذكر.
"الناس لازم تعرف"
عندما انتهيت من الكتاب شعرت أنني تحررت بشكل أكبر. حريتي الداخلية كانت موجودة رغم الاعتقال، لكن عندما انتهيت شعرت وكأنني أجريت نوعا من أنواع تصفية حساب مع تجربة السجن، وبالتالي انعكس إيجابا علي وعلى روحيتي أو معنويتي، أو وضعي النفسي بشكل عام، وبالتالي أنا أقول إن هذا الكتاب حررني ولو أنه يتحدث عن أسري وأسر الآخرين الذين عشت معهم في تلك.
أنا نفسي قبل أن أسجن عندما كنت أسمع أخبارا عن السجن وعن أشكال التعذيب كنت أقول هذه مبالغة، وهذه الأقوال ليست صحيحة وبالتالي كان علي واجبا ككاتب أن أنقل هذه التجربة، تجربتي الخاصة وتجربة المجموعة التي كانت معي، ونُقلنا سوية إلى تدمر خمس سنوات. ثم تجربتي في سجن صيدنايا الذي قضيت فيه بقية السنين الأربع عشرة. كان لابد من نقل الحقيقة على الرغم من أنها أليمة، الناس لازم تعرف. هذا صحيح كتاب عن السجن، لكنه دفاع عن الحرية.
روايتك تفتح للقارئ نافذة على عالم مظلم، عالم السجون والتحقيقات، فهل كنت تتخيل قبل اعتقالك أن الإنسان قادر على ممارسة مثل هذا التعذيب الوحشي؟
لا في الحقيقة لم أكن أتصور ذلك، لم أكن أعتقد أن الإنسان أو نسبة ما من الناس يمكن أن تبلغ فيهم الأمور ليتصرفوا بهذه الوحشية حتى لو أتتهم أوامر من فوق، هناك أشخاص تأتيهم الأوامر من فوق لكنهم لا ينفذونها بهذه الوحشية، فإذا أمروا بضرب سجين 300 جلدة يحاولون ضربه 100 مثلا، لكن في بعض الحالات بعد أن يضرب أحدهم 300 جلدة يقول للسجين لم أكتف، ويضيف من عنده عددا آخر. هذه هى الآلة الجهنمية للقمع. البعض غبي لدرجة أو ضعيف الثقافة بحيث يمكن أن يتعبأ سياسيا أو طائفيا أو لأسباب متعددة، لذلك تمكنوا من تدمير ذوات إنسانية كانت ربما سليمة تماما.
هم يحاولون عطب السجين جسديا، لكنهم في الحقيقة معطوبون نفسيا، وفقدوا إنسانيتهم، وكان بالنسبة لي أمرا مؤلما عندما أفكر أن هذا الذي يضربني لم يبق لديه أي قدر من الإنسانية. لكن يا ترى هل هذا ذنبه؟ طبعا هو يحمل مسؤولية شخصية، لكن المسؤولية الأولى تقع على هذه الآلة الجهنمية التي تنظم كل أجهزة الأمن وطرائقها. هي عار على النظام بحد ذاته، كيف يقبل نظام أن يحول جزءا من شعبه إلى سجين، ويشوهه جسديا ويسلب كرامته وحريته؟ للأسف دمر الاستبداد، وخاصة النوع الشمولي منه، جزءا كبيرا من شعبنا.
أنت ذقت مرارة السجون، واليوم تعيش سوريا أوقاتا مضطربة، فكيف تنظر إلى هذا السيناريو السوري؟
باعتقادي الشعب السوري بدأ احتجاجاته أو ثوراته في زمن مبكر، لكنها أُجهضت بطريقة وحشية، الآن أصبحت معظم وقائعها معروفة، بالنسبة إلي والآلاف مثلي، الذين دخلوا السجون بدأنا بتفاؤل كبير بأن الثورة قادمة وأن شعبنا سيتحرك، وأمضينا سنوات والشعب لم يتحرك. فأنا أقول ثورة كانت مؤجلة أو مفوته، لكن لم ينتابني ولا لحظة الإحساس بأن شعبنا سيبقى إلى الأبد خانعا، بل ستأتي لحظة وستأتي ظروف يتحرك.
"أمثولات الرعب ستعشعش في ذاكرة الناس"
ولا أستطيع أن أظلم شعبنا، فعندما يرون أمامهم أمثولات رعب فظيعة، مثل قصف مدينة حماة، عندما يرون الآلاف قد قضوا والآلاف يزجون في السجون، أو مفقودين عندما يرون حي المشارقة في حلب أو إدلب. الحقيقة هناك أماكن عديدة حصلت فيها مجازر، أو سجن تدمر بالذات الذي أبيد فيه 682 شخصا خلال ساعتين. أمثولات الرعب هذه هي باعتقادي ستعشعش في ذاكرة الناس وبالتالي يصبح التحرك ليس سهلا. بالإضافة إلى ذلك، النظام السوري راكب قصة القومية وقضية فلسطين.
أنا باعتقادي أن النظام السوري هو أمهر من تاجر بالمسألة القومية ومسألة فلسطين خلال عقود، في الوقت الذي نعرف فيه جيدا أن الجولان آمن، ولا يوجد أي سوري يتجرأ أن يبادر ويقول أنا أريد مواجهة إسرائيل، التي احتلت الجولان، لأن النظام السوري حامي الحدود، حاميها من الدخول إلى إسرائيل، وليس حاميها من دخول إسرائيل إلى سوريا، هذا الأمر للأسف، لعب النظام فيه على المشاعر الوطنية وأجهض كثيرا من الاحتقانات أو الاستعداد للاندفاع أو للتظاهر.
لكن الآن أنا باعتقادي عندما يجد الشعب السوري أن الثورة قامت في تونس وأطاحت ببن علي، وقامت في مصر وأطاحت بمبارك. الآن ليبيا واليمن والبحرين، هذا الوضع تمكن أن يشحن شعبنا ليقول نحن أيضا مثل الشعوب الأخرى، لسنا أقل منها على الرغم من وجود بطش هنا ربما يمكن أن يكون أكبر بكثير ربما على النمط الليبي أو على النمط اليمني.
"شعرت بالرغبة بالبكاء فرحا"
لكن الناس تحركت ولا أخفي أني في لحظة من اللحظات شعرت برغبة في البكاء، حزنا وفرحا وقلقا. إن الشعب السوري رغم كل الذي حصل له، رغم كل المجازر التي حصلت قادر أن يتحرك. ويبدو أن هناك جيلا لم تتمكن لا الحركة التصحيحية ولا الحركة الوراثية أن تغسل ذهنه الشباب وقيمه وروحه. ويبدو أن محاكمتهم الذهنية والأخلاقية أقوى من إمكانيات غسيل الأدمغة عبر الطلائع والشبيبة والبعث والجيش العقائدي والإعلام الموجه. أنا أشعر بفرح إلى حد كبير، هذا هو شعبنا الذي كنت أتخيله وأكتب عنه وكتبت عنه شاهدت الصور وشاهدت درعا، درعا الآن أم المدن السورية وأتمنى أن تدعمها أخواتها وتنصرها.
الشعب السوري لم يكن تاريخيا أقل من الشعب التونسي أو الشعب العراقي واليمني أو الليبي وهو جدير بالوصول إلى حقوقه وفي نفس الوقت نشأ جيل الموبايلات والفضائيات والإنترنت، وغسل دماغه أصعب من المرحلة التي عشناها نحن سابقا، لأنه مطلع على كل ما يجري في العالم. فحتى عندما يحجب النظام موقعا على الإنترنت فهذا الجيل الشاب قادر أن يكسر هذا الحجب وبالتالي يتواصل مع مصر ومع تونس ومع كثير من الأمور في كل أنحاء العالم عبر هذه التقنيات الحديثة.
هل تعتقد أن بإمكان الكاتب والشاعر أن يساهم في دعم مطالب الشعب بالحرية والديمقراطية وكيف؟
أنا ممن يقول لا أبدا، حتى الأقوال مثل الكلمة كسلاح أو فعالة كالبندقية، لا، ليست فعالة كالبندقية. الكاتب يكتب أولا، لأن هناك شيئا يدفعه إلى الكتابة، هناك شيء يريد أن يفرغه من داخله.
الكاتب ينبغي أن يكون ضميرا حيا لهموم شعبه، لكن هذا الضمير الحي ليس من أجل أن يقود شعبه، وليس من أجل أن يكون سلاحا. مهمته أن يعبر عن هذه الأحلام وهذه المشاعر ويعبر عن معاناة الناس، أن يكون على التماس معهم وهذا يؤسس حالة أشبه بالإسناد أو حالة الخلفية أو حالة الأرضية، التي يمكن أن ترسخ قيما أنبل وترسخ ذوقا فنيا أعلى. أنا باعتقادي أن دور الأدب هو أن يعكس ماضي الشعب وأحلامه وطموحاته ومستقبله، والذي يقود الناس في النهاية هي أهداف محددة، وبرامج محددة، وهذا شغل السياسيين وليس شغل الكتاب.
ما هو أهم شيء الآن في حياة فرج بيرقدار؟
الحلم الذي توهج هو أنني وجدت أننا لم نكن واهمين عندما كنا نحكي عن حرية شعبنا وعن رقي وتقدم مجتمعنا. الآن أراه يتحقق في تونس ويتحقق في مصر وبوتيرة مدروسة وثابتة. هذا الحلم الآن بالنسبة لي بدأت أراه في سوريا، أشعر أنه لم يعد لدي أي أحلام كبيرة ماعدا هذا الحلم: أريد أن يتذوق شعبنا الحرية الحقيقية لا حرية الشعارات، الحرية التي هو جدير بها، وحرم منها عقودا طويلة. وعندما يتحقق هذا، فلا يوجد باعتقادي أي أحلام كبيرة أخرى.
أجرت الحوار منى صالح
مراجعة: لؤي المدهون