الشعب الأرمني ضحية التاريخ والتسييس بعد تسعة عقود على مأساته
يقول أستاذ التاريخ يهودا باور في تعليق لافت للنظر يصف فيه البعد التاريخي لبدأ ملاحقة ومعاناة الأرمن:"تعتبر الإبادة الجماعية للأرمن خلال الحرب العالمية الاولى مأساة تاريخية ذات أبعاد وتداعيات كبيرة أثرت على مجريات الأمور وخاصة على هجرة وانتشار الشعوب". وفي إطار آخر سمى إيلى فيسل، حامل جائزة نوبل للسلام، مجزرة عام 1915 "الهولوكوست قبل الهولوكوست الأكبر"، في إشارة لا لبس فيها إلى ضخامة المعاناة الإنسانية الناتجة عنها.
بدء المعاناة الأرمنية بقرار متعمد
هناك مقولة مشهورة ومتداولة تقول مفرداتها: إذا تحركت جبال ارارات الشهيرة من مكانها يوماً ما، فإنه يمكن أن يعم الود بين البلدين الجارتين تركيا وأرمينيا· وعلى الرغم من أن هذه المقولة لا تتضمن حكماً قطعياً وأزلياً يحكم مستقبل العلاقة بين الأتراك والأرمن، إلا أن العبء التاريخي الناتج عن مسئولية الدولة العثمانية عن الاضطهاد المنهجي للأرمن يبقى أحد حقائق علم التاريخ المعاصر. فالمصادر التاريخية الموثوق بها تفيد بأن مجزرة عام 1915 أقرت في اجتماعين سريين عقدهما زعماء حزب الاتحاد والترقي التركيين في مدينة سالونيك (حالياً في اليونان) في آب/أغسطس 1910 وفي تشرين الأول/أكتوبر1911. وتؤكد المعلومات المتوفرة لدى علماء التاريخ أن حزب الاتحاد والترقي أقر خلال اجتماع عام 1910 "مبدأ سيادة العنصر التركي على الشعوب الأخرى غير التركية إضافة إلى إقرار كافة الوسائل لتحقيق هذا الهدف".
خطر التسييس
وبالرغم من هذه المعطيات التاريخية الواضحة إلا أن تركيا الحالية، أي "جمهورية أتاتورك " التي تسعى بقوة لتصبح عضواً في الأسرة الأوروبية لا تعترف بمسئوليتها الإنسانية، رغم أنها لا تنفي ما قامت به الإمبراطورية العثمانية. فهي تصر على أن عدد الضحايا لا يزيد على الـ 500 ألف أرمني وتنفي نفياً قاطعاً أن يكون قد وصل إلى مليون ونصف المليون· كما يشير الأتراك ذوي التوجهات القومية إلى أن غالبية الضحايا قد سقطوا في معارك شهدت قتل الآلاف من الأتـراك العثمانيين أيضاً·
الشيء الملفت للنظر والمحزن في هذا السياق هو أن الاهتمام "الجديد من نوعه" بقضية الشعب الأرميني يأتي في ظل الجدل الحامي الوطيس حول أحقية وأهلية الدولة التركية الحديثة للانضمام إلى الإتحاد الأوروبي. فالخطر الكبير الذي يزيد الطين بلة في هذا السياق هو نية الكثير من سياسي النخبة الأوروبية المحافظة استخدام "المعاناة الأرمينية" كحصان طروادة لإجهاض انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي. وعلاوة على ذلك فقد بدأ الاهتمام بقصة المعاناة الطويلة للشعب الأرميني في بداية عقد الثمانينات وبالتزامن مع تغير موازين القوى في العالم وشيوع المطالبة بحماية الأقليات وحقوق الإنسان.
تركيا أمام مأزق الاعتراف
وعلى ضوء الارتباط الرحمي بين نشأة وهوية الدولة التركية القومية الحديثة وبين وقائع مجازر الإبادة الجماعية ضد الأرمن يصبح احتمال اعتراف تركيا بمسئوليتها التاريخية (خاصة الإنسانية منها) أمراً مستبعداً، فمثل هذا الاعتراف سيكون من شأنه إثارة الشكوك بالدعائم الأخلاقية لإقامة هذه الدولة. غير أن التعاطي النقدي مع هذه الحقبة المثيرة من تاريخ تركيا يبقى تحدياً يواجه ذاتية الهوية الأوروبية القائمة على مبدأ تحمل مسؤولية الماضي المرير والاتعاظ بدروسه. كما يجمع الباحثون في مجال التحليل العلمي لجرائم الإبادة الجماعية على أن إنكار الجريمة ورفض تحمل عبئها الأخلاقي يعتبر جزءاً لا يتجزأ من حيثياتها!
لؤي المدهون