الصور النمطية ودورها في توسيع الفجوة مع ثقافة الآخر
انتابت العلاقة بين الشرق والغرب في القرن العشرين حالة من الخلاف والعداء تباينت في حدتها ومدتها من بلد لآخر ومن فترة لأخرى. فالتاريخ الاستعماري الطويل للغرب في العالم العربي والاسلامي فرض صورة نمطية ثابتة في عقلية الشرق وأدبياته وتراثه الفكري والسياسي. هذه الصورة ظلت على مر العصور تكتسب ملامحها والوانها من شخصية المستعمر المرسومة في خلد الغالبية العظمى والقائمة اساسا على أن الاستعمار في جوهره انما يهدف الى السيطرة على ثروات البلد ومقدراته وفرض ثقافته وفكره دون الاهتمام بثقافة البلد الخاضع للاستعمار. في هذه الحقبة لم يكن لدى المجتمعات الغربية صورة نمطية محددة عن الشرق سوى ما كان يرد في كتابات المستشرقين والرحالة التي كانت في معظمها علمية بحثية بحته أو خيالية تفتقر في أحيان كثيرة الى الواقعية. لم يكن الاسلام في هذه الفترة، والحديث هنا عن الحقبة التي تلت الحرب العالمية الاولى، قد دخل في طور التسييس بالرغم من وجود بعض "الثويرات" الإسلامية المرحلية مثل ثورة عز الدين القسام ضد الانتداب الانجليزي في فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي. وبعد قيام دولة اسرائيل عام 1948 وتحرر معظم الاقطار العربية من الاستعمار الغربي، بدأ شكلان محددان لنظام الحكم في العالم العربي بدءا من الخمسينيات في التبلور: الاول ملكي أو أميري والثاني جمهوري قومي. في هذا السياق يجدر الذكر أن تأثير جماعة الاخوان المسلمين، كبرى الحركات الاسلامية، بقي مقتصرا على القطر الذي تتواجد فيه ولم ترق الحركة في برامجها ونشاط أعضاءها وحضورها الاعلامي لأن تكون موضع تهديد يمكن للغرب أن يحسب حسابه، كما أن حضورها في الاعلام الغربي كان محدودا للغاية.
بداية ظهور الصور النمطية عن الاسلام
تشكل الثورة الاسلامية الايرانية 1979 بداية حقيقية لظهور صور نمطية سلبية عن الاسلام في وجدان المجتمعات الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين. ولم تنحصر هذه الصور في المجتمع الايراني فحسب، بل امتدت ايضا لتشمل الشرق بكامله بما في ذلك العالم العربي. فمنذ ذلك الحين أصبحت صور جموع غفيرة من البشر ترفع القرآن وتهتف للاسلام والدولة الاسلامية، وتأتمر بقيادات ترتدي العمامة وتكتسي وجوهها اللحى الطويلة، هي الصور الغالبة التي تناقلتها وسائل الاعلام العالمية، معيدة بذلك الى الذهنية الاوروبية حقبة "المد والخطر الاسلامي" ابان الغزو العثماني التركي لاوروبا في القرنين السادس والسابع عشر. ومنذ نجاح الثورة الخمينية أصبح من النادر أن يجد المرء برنامجا تلفزيونيا غربيا يتحدث عن الشرق الاسلامي ويخلو في نفس الوقت من صور مستقاة من الثورة الايرانية وما يرتبط بها. كما ساعد في تلك الفترة انتشار ما كان يعرف "بالفكر الجهادي" في افغانستان ضد القوات الشيوعية السوفيتية في تعزيز الصورة النمطية المتعلقة بشكل ومضمون الاسلام السياسي. وبشكل متسارع اخذت الجماعات الاسلامية تنخرط اكثر فأكثر في العمل السياسي، تارة عن طريق التظاهرات المطالبة باجراء اصلاحات سياسية داخلية، وتارة عن طريق المشاركة المباشرة في الانتخابات المحلية والبرلمانية كمشاركة حركة الاخوان المسلمين في انتخابات مصر والاردن وجبهة الانقاذ الاسلامية في الجزائر وحزب الله في لبنان وآخرها حركة حماس في فلسطين.
اختزال صورة الشرق من خلال الاسلام
بعد سلسلة العمليات الارهابية في العاصمة الكينية دار السلام (1988) وفي الولايات المتحدة الامريكية (2001) وفي مدريد (2004) وأخيرا في لندن (2005) تبلورت صورة سلبية كاملة في الغرب عن الاسلام والشرق عموما، صورة لم تعد قائمة على اساس الخيال وروايات الرحالة وعشاق المغامرات، وانما على اساس الوقائع التي تقرأ وتشاهد يوميا في وسائل الاعلام المختلفة وتدعم بالصور الحية. ولعل الملفت للنظر في التغطية الاعلامية في أوروبا، على الاقل بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، هو استخدام صور لارهابيين أو لامرأة ترتدي الخمار أو لجموع غفيرة تهتف غاضبة أو لاشخاص ملثمين ويحملون السلاح عند الحديث عن موضوع يخص الشرق أو العالم الاسلامي. هذه الصور المنتقاة ساهمت مساهمة كبيرة في تجذير صور نمطية سلبية عن الآخر يكون لها تأثير قوي على القارئين والمشاهدين يفوق كل الدراسات العلمية الواقعية والتحاليل الصحفية الموضوعية. فالصور أقوى من كل الكلمات، والصور يمكن تخزينها واسترجاعها في ذاكرة الانسان لفترة طويلة، اما الكلمات فسهل نسيانها. من منا يتذكر ما قاله بوش بعد عمليات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 الارهابية؟ لكن الجميع يتذكر صور الطائرات وهي ترتطم ببرجي التجارة العالمية في نيويورك. ومن منا يتذكر عبارات الاستياء والاشمئزاز التي عبر عنها جميع الزعماء الاوروبيين والامريكيين عندما تم الكشف عن صور السجناء العراقيين في معتقل أبو غريب؟ لكن الصور تبقى حاضرة في ذاكرتنا الجماعية. وبفضل التقدم الهائل في وسائل الاتصال الحديثة مثل الانترنت أصبح بالامكان استرجاع مثل هذه الصور ومشاهدتها في كل وقت، الامر الذي يجعل من استخدامها لاغراض دعائية تحريضية أمرا في غاية السهولة.
انتقائية الاعلام العربي في التعامل مع الغرب
لا يبدو أن الامر على الضفة الأخرى، على الأقل في العالم العربي، مختلف كثيرا عما هو عليه الحال في الغرب. فالغالبية العظمى من وسائل الإعلام العربية، وخصوصا الرسمية منها، تفرد تغطية موسعة للحديث عن تجاوزات وأخطاء الغير في التعامل مع القضايا العربية، في حين تتجنب هذه الوسائل تناول التجاوزات الداخلية الاجتماعية والسياسية والقضائية في موادها الاعلامية. هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى يشابه الاعلام العربي نظيره الغربي في التركيز على الاحداث المأساوية والسيئة ووضعها في مستهل نشراته وعلى صدر صفحاته، عملا بالمبدأ الاعلامي السائد "الاخبار السيئة هي الاخبار الجيدة". كم من التقارير شاهدنا عن العمليات العسكرية في العراق؟ وبالمقابل كم من التقارير شاهدنا عن أداء الحكومة، عن عمليات اعادة البناء، عن الوضع الاقتصادي لشرائح الشعب المختلفة منذ انهيار النظام؟ فكما يخطئ الاعلام الغربي في تصوير العالم العربي والشرق الاسلامي عموما من خلال الصور النمطية السلبية، مطلقا بذلك أحكاما لا تتسم بالموضوعية والواقعية، يرتكب الاعلام العربي نفس الخطأ في اعتبار الغرب كيانا واحدا متكاملا يتحمل مسؤولية كل الكوارث والمصائب التي يعيشها الشرق العربي. لا يمكن اختزال نظرة الشرق الى الغرب من خلال صور سجن أبو غريب سئ الصيت، كما لا يمكن اعتبار الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول تعبيرا عن رأي الغرب عموما تجاه الاسلام ونبيه. يجب أن لا ننسى أن أكبر المظاهرات التي خرجت ضد الحرب على العراق كانت في لندن وروما ومدريد، اي في الدول التي دعمت حكوماتها الحرب ضد العراق.
الموضوعية في تحليل مكامن الخلل
ليس كل ما يلمع ذهبا، وليس كل ما ينقله الاعلام واقعا. الكل يتحمل من طرفه جزءا من مسؤولية الاوضاع المتردية والعلاقات المتوترة بين الشرق والغرب. على العالم الغربي أن يلتفت الى الاسباب الحقيقية التي جعلت من أزمة الرسوم الكاريكاتورية الاخيرة تتحول الى ما يشبه صراعا بين ثقافتين متناقضتين. الصحفي والمفكر السويسري هوتينغر، أحد أشهر الخبراء في شؤون العالم العربي والاسلامي، اعتبر في حوار معنا أن ردود الفعل الغاضبة في العالم الاسلامي هي عبارة عن " ظاهرة تستحق الانتباه والتحليل، هي ظاهرة تعبر عن وضع هش قابل للكسر بمجرد أن يظهر سوء فهم أو خلاف على السطح." أين هي ثمار الحوار بين الغرب والشرق والذي ارتفعت وتيرته بعد 11 سبتمبر 2001؟ د. هوتينغر يجيب على هذا التساؤل بالقول: "بالتأكيد سيكون من الصعب احراز تقدم على صعيد الحوار والتبادل الثقافي ما لم تتخذ اجراءات فاعلة لتحقيق نوع من العدالة وتصحيح السياسات الخاطئة وانهاء التجاوزات العسكرية في الشرق الاوسط." ومع كل ذلك لا يعتبر د. هوتينغر أن الحوار بين الشرق والغرب قد انتهى بالفشل: "انها فترة عابرة، وستنتهي. المهم أن لا نترك للاعمال الاستفزازية من قبل هذا الطرف أو ذاك فرصة لتوسيع الهوة بين الشعوب والثقافات. علينا أن نتعلم الدرس ونكون أكثر موضوعية في فهم الاخر وفي انتقاء الصور التي نشير بها اليه."
وفي النهاية لا أجد أبلغ مما كتب أحد المفكرين في صحيفة الحياة اللندنية عام 2002 حول دور الاعلام والاعلاميين العرب: "وقد قررنا أن الرأي العام الغربي مهم بالنسبة لقضيتنا وأصبحنا نعد العدة لمخاطبته أن نصلح من شأن أنفسنا، فالتعامل مع الرأي العام أمر مختلف عن التعامل مع الحكومات والاجهزة الرسمية. وقد يقبل بك الرسميون ويتعاملون معك على ما أنت عليه لكن الرأي العام لن يصدقك الا وأنت موضع احترام ومن الصادقين ولن يتعاطف مع مطالبك العادلة الا اذا رأى العدالة فيك. وتكون بداية هذه المهمة العسيرة بالعمل على كيف يفهمك الآخرون."