50 عاما على هجوم ميونيخ .. هل حصلت أسر الضحايا على ما تريده؟
٢ سبتمبر ٢٠٢٢بعد نحو خمسين عاما على مقتل 11 رياضيا إسرائيليا في أولمبياد ميونيخ الصيفية في عام 1972 على يد مسلحين فلسطينيين هاجموا مقر سكن الرياضيين الإسرائيليين في القرية الأولمبية، توصلت ألمانيا وأسر الضحايا إلى اتفاق لتشكيل لجنة ألمانية إسرائيلية مشتركة للبحث في حيثيات الحادث الإرهابي، بالإضافة إلى الاتفاق على دفع تعويضات لأسر الضحايا من طرف الحكومة الألمانية وحكومة ولاية بافاريا، التي تقع فيها مدينة ميونيخ، وكذلك إدارة مدينة ميونيخ نفسها.
ويقضي الاتفاق بأن تدفع الحكومة الاتحادية وكذلك ولاية بافاريا ومدينة ميونيخ 28 مليون يورو لعائلات ضحايا هذه العملية التي انتهت بمقتل 18 شخصا، بينهم 11 رياضيا إسرائيليا.
الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ رحب، من جانبه، بإعلان الحكومة الألمانية التوصل إلى هذا الاتفاق، معرباً عن تقديره "للخطوة التي اتخذتها الحكومة الألمانية بقيادة المستشار أولاف شولتس، لتحمل المسؤولية ودفع تعويضات عن الظلم التاريخي الذي لحق بأسر ضحايا مذبحة ميونيخ".
وتأتي هذه الاتفاقية قبل أيام من إحياء الذكرى الخمسين لعملية احتجاز الرهائن، الغريبة من نوعها في تاريخ الأولمبياد، والتي انتهت بحمام دم؛ بعد عملية إنقاذ فاشلة قامت بها الشرطة في قاعدة عسكرية جنوب ألمانيا.
وكانت هذه القضية الحساسة حول التعويضات التي يجري التفاوض عليها منذ عقود، تثير غضب عائلات الضحايا. فقد اعتبرت مقترحات الحكومة الألمانية مهينة، وهددت بمقاطعة حفل إحياء الذكرى في بافاريا.
وقد أعلن الرئيس الألماني فرانك - فالتر شتاينماير ونظيره الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ ترحيبهما بالاتفاق، في بيان مشترك و مشاركتهما في حفل إحياء الذكرى الخمسين للحادثة وإقامة تأبين لائق للضحايا في ميونيخ يوم الاثنين القادم (الخامس من سبتمبر/ أيلول 2022). وقال الرئيسان "نحن سعداء ومرتاحون للتوصل إلى اتفاق بشأن التوضيح التاريخي والاعتراف والتعويض قبل فترة وجيزة من الذكرى الخمسين".
وجاء في البيان: "الاتفاق لا يمكن أن يشفي كل الجراح. لكنه يفتح الباب لبعضنا البعض. وبهذا الاتفاق، تعترف الدولة الألمانية بمسؤوليتها وتقر بالمعاناة الرهيبة للقتلى وأقاربهم، والتي سنحيي ذكراها الأسبوع المقبل''.
إهمال تحذيرات المخابرات
كانت الحكومة في "ألمانيا الغربية" (حينها) تأمل في أن تقدم الأولمبياد وجها آخر لألمانيا، بعد سبعة وعشرين عاما على انتهاء الحرب العالمية الثانية. وكان يفترض أن يحمل الوفد الإسرائيلي المشارك في الأولمبياد قيمة رمزية مهمة، خصوصا وأن بعض أفراده كانوا من بين الناجين من المحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
وبهدف تقديم صورة جيدة لألمانيا الجديدة، آمنة وأكثر ودية، تم تقليل وجود الشرطة إلى الحد الأدنى. وفي وقت الهجوم، كان 34 شرطيا فقط موجودين في القرية الأولمبية، اثنان منهم فقط كانا مسلحين.
حدث ذلك رغم أن الشرطة الألمانية حينها كان لديها سبب للاعتقاد باحتمال حدوث هجوم على الوفد الرياضي الإسرائيلي. فبحسب تقرير نشرته مجلة "دير شبيغل" الألمانية عام 2012، فإن الإرهابيين الذين قاموا بالعملية قد تلقوا مساعدة من النازيين الجدد في ألمانيا. إذ نقلت المجلة، أن الشرطة في مدينة دورتموند وثقت لقاءً بين العقل المدبر للعملية المدعو أبو داوود وزعيم جناح يميني ألماني متطرف في مدينة دورتموند، ما دفع الشرطة إلى أرسال مذكرة بعنوان "اشتباه في نشاط تآمري لإرهابيين فلسطينيين"، إلى جهات أمنية في ألمانيا الغربية.
وبحسب نفس التقرير للمجلة، فإن هذه المذكرة كانت واحدة من 17 تقرير تحذيرياً، تلقته الهيئة الاتحادية لحماية الدستور (المخابرات الداخلية الاتحادية)، قبل دورة الألعاب الأولمبية.
كما ورد تقرير من سفارة ألمانيا الغربية في بيروت في منتصف أغسطس/ آب 1972 يحذر من أن منظمات فلسطينية "تخطط لعمل ما خلال الألعاب الأولمبية".
وبسبب عدم الالتفات إلى خطورة التقارير، تمكن الإرهابيون يوم الخامس من سبتمبر/ أيلول 1972 من القفز فوق السياج ودخول القرية الأولمبية ومقر إقامة الوفد الرياضي الإسرائيلي وقتل أحد أعضاء الوفد واختطاف 10 آخرين.
عملية إنقاذ فاشلة
وبعد انتشار أنباء احتجاز الرهائن، اتصلت الحكومة الإسرائيلية بنظيرتها في ألمانيا الغربية وعرضت إرسال قوات نخبة إسرائيلية، تعتبر من بين الأفضل في العالم، للمساعدة في إطلاق سراح الرهائن. ورغم الخبرة الألمانية المتواضعة في التعامل مع مواقف كهذه، رفضت حكومة ألمانيا الغربية العرض الإسرائيلي. وسمح لممثلين اثنين فقط للجانب الإسرائيلي بدخول ألمانيا الغربية، أحدهم تسفي زامير، رئيس الموساد الإسرائيلي، والذي لم يسمح له بمراقبة عملية إنقاذ الوفد المختطف ولم يسمح له بأي دور فعال. ووفق وثائق إسرائيلية نشرت عام 2012، انتقد زامير عملية الشرطة الألمانية بشدة.
وقال زامير للحكومة الإسرائيلية حينها: "لم يقم الألمان بالحد الأدنى لإنقاذ الأرواح"، موضحا أن الانطباع لديه أن الاهتمام كان منصبا على ضمان استمرار الألعاب الأولمبية. وأضاف: "إنهم (الشرطة الألمانية) لم يعطوا أي قيمة لإنقاذ أرواح الناس، لا أرواحنا ولا أرواحهم".
وبسبب القانون الألماني لم يسمح للجيش بالتدخل في العملية، باعتبار أن الهجوم "قضية مدنية"، ما أدى إلى تولي الشرطة البافارية مسؤولية إطلاق سراح الرهائن، رغم عدم حصول الشرطة حينها على أي تدريب متعلق بمثل هذه العمليات.
حتى القناصة الذين كان يفترض فيهم قتل الإرهابيين في مطار فورستنفيلدبروك، خارج ميونيخ، لم يكونوا على اتصال مباشر فيما بينهم. ورغم ظهور ثمانية إرهابيين خلال خروجهم مع الوفد المختطف من القرية الأولمبية، كان عدد القناصة في المطار خمسة فقط. وكانت الشرطة تخطط لتحييد الإرهابيين على متن طائرة، كان يفترض بها أن تقلهم إلى بلد عربي. لكن العملية هذه أوقفت؛ قبل أن تحط الطائرات المروحية التي كانت تقل المختطفين والإرهابيين إلى المطار. ونتيجة عملية الإنقاذ الفاشلة قتل 11 إسرائيليا وشرطي ألماني واحد.
معاملة "مهينة" في ألمانيا
ولغرض كشف حقيقة ما جرى ذلك اليوم، أطلقت الأرملتان أنكي شبتزر وإيلانا رومانو ، وهما أرملتا اثنين من الوفد قتلا في العملية، حملة تطالب الحكومة الألمانية بالنظر في مجريات أحداث ذلك اليوم.
فعلى مدى خمسة عقود كانت الأرملتان ترحلان من محكمة إلى أخرى ومن سياسي ألماني إلى آخر، ومن جهة مسؤولة إلى أخرى في محاولة للحصول على إجابات. لكنهما كانتا تتعرضان للتجاهل، بل وإلقاء اللوم في كثير من الأحيان على "جلب الحرب إلى ألمانيا"، كما قالت إيلانا رومانو في مقابلة مع DW.
وبحسب رومانو وشبيتزر، وجدت العائلات أن تعامل الدولة الألمانية مع قضيتهم كان "مهيناً". وقالت أنكي شبيتزر قبل التوصل إلى اتفاق يوم الأربعاء (31 أغسطس/ آب 2022) : "لن أتوقف عن البكاء بعد البؤس الذي تسببت به ألمانيا لنا خلال 50 عاما".
كانت مطالب الأسر الثكلى تتعلق بثلاث نقاط، أولا: نشر جميع المواد الأرشيفية المتعلقة بالهجوم. ثانيا: أن تتحمل الدولة الألمانية المسؤولية عن الهجوم وتصدر بيان اعتذار، ثالثا: دفع ألمانيا تعويضا "عادلا" عن آلامهم ومعاناتهم.
التعويض.. فارق كبير بين وجهتي النظر
بينما كانت الأسر تتوقع تعويضا يشبه التعويض في حالات سقوط ضحايا نتيجة هجمات إرهابية على المستوى الدولي، كانت ألمانيا على استعداد لدفع تعويضات تشبه التعويضات المدفوعة لضحايا نتيجة أعمال إرهابية على المستوى المحلي، مثل مقتل تسعة أشخاص من أصول مهاجرة في مدينة هاناو بمقهى للشيشة عام 2020، والتي كان منفذها إرهابي يميني متطرف.
ووفق عرض قدمته السفارة الألمانية في تل أبيب واطلعت عليه DW، قبل التوصل إلى صفقة، فإنه وفقا لوثيقة العرض، تعهد الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير "بالتأكيد أكثر على مسؤولية ألمانيا" عمّا حدث.
وبحسب الوثيقة، تضمن عرض ألمانيا دفع 5.4 مليون يورو (5.43 مليون دولار) بالإضافة إلى 4.6 مليون يورو تم دفعها بالفعل. رغم أن الأسر قد طلبت 99 مليون دولار - أو ما يقرب من 20 ضعفا للعرض الألماني.
أخيرا.. التوصل إلى اتفاق
لكن الأسر وعائلات الضحايا رأت أن مبلغ 9 ملايين دولار تعويضا، يفترض أن يتقاسمها 23 من أفراد عائلات الضحايا المباشرين، هو مبلغ رمزي. بيد أن وكالات أنباء، مثل الوكالة الألمانية "د ب أ" والفرنسية "أ ف ب" علمت بدورها (الأربعاء 31 أغسطس/آب)، أن الحكومة الألمانية توصلت مع عائلات الضحايا الإسرائيليين إلى اتفاق الأربعاء بشأن التعويض. وقال مصدر حكومي لـ"أ ف ب" إن الاتفاق يقضي بأن تدفع الحكومة الاتحادية وكذلك ولاية بافاريا ومدينة ميونيخ 28 مليون يورو لعائلات ضحايا هذه العملية. وقال المتحدث باسم الحكومة الألمانية شتيفن هيبيشترايت في بيان إن "الحكومة الاتحادية ترحب بالاتفاق مع أسر الضحايا".
ويفترض أن تدفع الحكومة من ذلك المبلغ 20 مليونا وتدفع ولاية بافاريا خمسة ملايين وتدفع مدينة ميونيخ ثلاثة ملايين. إلا أن بعض ممثلي الأسر يقولون إنهم قد علموا بفحوى الاتفاق عن طريق وسائل الإعلام فقط.
وعن ذلك الاتفاق قالت إيلانا رومانو لـ DW: "لقد تم رفع ثقل كبير عن أكتافنا، في الغالب لأن هذا يعني أن أطفالنا وأحفادنا لن يضطروا إلى الكفاح بعد الآن، سيكون عليهم فقط التعامل مع إحياء ذكرى الضحايا، دون الحاجة إلى النبش في الجرح المفتوح".
ويعني التوصل إلى اتفاق أن العائلات ستسافر الآن لحضور احتفالات الذكرى الخمسين للهجوم، وبالنسبة لرومانو، فإن السفر إلى ألمانيا لم يعد أسهل من ذي قبل وقالت لـDW: "العودة إلى ألمانيا صعبة دائمًا، وخصوصا العودة إلى القرية الأولمبية، حيث قُتل يوسي (يوسف رومانو".
وكانت رومانو قد قالت في تصريحات لموقع "والا" الإسرائيلي :"مادام لا توجد أي اعتراضات مجنونة تمنع ألمانيا من تحمل مسؤوليتها أو فتح الأرشيف، فلا بأس، سنسافر إلى ألمانيا ونحضر مراسم التأبين".
فيلكس تامسوت/ تحرير: تشاك بنفولد/ع.خ/ص.ش