عندما يقول الرئيس ماكي سال لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، بأن الدول الأفريقية "ضحية" للنزاع في أوكرانيا، فهو يحاول اختزال معاناة حوالي ثلث سكان القارة المهددين بأزمة غذائية حادة، بسبب توقف صادرات الحبوب الأوكرانية والروسية.
وقد وردت تحذيرات من الأمم المتحدة من مجاعة في الدول الأفريقية التي تتجاوز وارداتها من الحبوب الأوكرانية والروسية 50 في المائة من احتياجاتها. وبدورها منظمتا "فيلت هونغر هيلفه" الألمانية المعنية بمكافحة الجوع و"تير ديز أوم" الإغاثية، دقت ناقوس الخطر من أوضاع كارثية جراء تظافر تداعيات حرب أوكرانيا وجائحة كورونا وآثار تغير المناخ.
هل يستجيب بوتين لأصوات الأفارقة؟
لم يكن مفاجئا أن يتزامن لقاء سوتشي بين الرئيس الروسي ورئيس الاتحاد الأفريقي، مع إطلاق تشاد صيحة إستغاثة وإعلان "حالة طوارئ غذائية" في البلد الواقع في وسط القارة الأفريقية ويواجه فيه زهاء ستة ملايين شخص خطر الجوع. وتشاد هي واحدة من دول أفريقية عديدة تربطها علاقات قوية بروسيا، تواجه اليوم معاناة مزدوجة بسبب أزمة غذائية حادة وإرتفاع أسعار الطاقة. إذ عززت روسيا في السنوات الأخيرة حضورها الاستراتيجي في مناطق مختلفة من القارة الأفريقية، عبر اتفاقيات عسكرية وأمنية، تحولت بمقتضاها موسكو إلى منافس قوي لقوى تقليدية غربية وأيضا قوى صاعدة كالصين وتركيا والهند.
بيد أن المفارقة اليوم تكمن في أن القارة الأفريقية تحولت بسرعة من شريك إستراتيجي لروسيا إلى مستغيث من أوضاع كارثية تهدده، فهل يستمع الرئيس بوتين إلى نداءات الأفارقة التي يحملها معه الرئيس السنغالي؟
ما رشح عن لقاء سوتشي الذي التأم على الضفة المقابلة من البحر الأسود حيث يسمع دوي القصف وأصداء الآلة العسكرية الروسية وحربها الطاحنة في شرق أوكرانيا، يفيد بأن الرئيس بوتين بدوره تحول إلى "مستغيث" من العقوبات المالية واللوجستية الغربية وعمليات تفخيخ أوكرانيا لموانئها، ومن ثم تتحول روسيا التي تبسط سيطرتها وحصارها على موانئ أوكرانيا في البحر الأسود إلى "ضحية"، وتريد من الأفارقة أن يمارسوا "ضغوطا"على القوى الغربية لرفع العقوبات، وعلى أوكرانيا لنزع الألغام من موانئها. مطالب وصفتها كييف بـ"الابتزاز" ومن جهتها جددت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك اتهامها لموسكو بالمسؤولية عن الأزمة الغذائية في القارة الأفريقية وأنحاء عديدة من العالم.
وفي السنغال وديمقراطيات أفريقية أخرى ناشئة، يعتقد قطاع مهم من الساسة الأفارقة بأن النأي بأنفسهم عن إبداء مواقف واضحة إزاء الغزو الروسي لأوكرانيا، سيجنبهم ضغوطا روسية تعني في قاموس الأفارقة تدخلات سياسية وأمنية في أوضاعهم الهشة. ففي أقل من سنة واحدة شهدت أربع دول أفريقية في جنوب الصحراء إنقلابات عسكرية، وأحدثها مالي، وشهدت دول أخرى اختراقات أمنية وعسكرية روسية مباشرة أو عبر مرتزقة الفاغنر.
وعلى امتداد عقود من الزمن كانت أولويات سياسات الدول الغربية في القارة الأفريقية، تركز على المصالح الاقتصادية والاستراتيجية واستغلال ثروات القارة، وتجاهلت بالمقابل هموم الأفارقة وآمالهم في التنمية والاستقرار، ونتج عن ذلك تحول في مزاج الأفارقة ضد النفوذ الغربي والاستعماري على وجه الخصوص، ويمكن رصد مؤشراته في نزعات مناوئة للنفوذ الفرنسي في دول غرب أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء.
وخلال جولته الأفريقية منذ أسبوعين، تحدث المستشار الألماني أولاف شولتس، صراحة عن إدراكه لهموم الأفارقة وتطلعاتهم. ولم يخف المستشار شولتس وجود فجوة وتباين في الآراء بين عدد من القادة الأفارقة والشركاء الغربيين إزاء حرب أوكرانيا، ودعا إلى الإنصات إليهم والتعامل معهم كشركاء في بناء نظام عالمي تعددي.
ديمقراطية أفريقية عريقة وشريك واعد
قد يُختزل السنغال لدى أجيال القرن العشرين بالعالم العربي أو أوروبا، في شخصية زعيمها التاريخي وأديبها الفذّ ليبولد سنغور، الذي تحمل اسمه جامعة مصرية بالاسكندرية، ويُذكّر بحضوره وعلاقاته المتينة بزعيمي المغرب وتونس الراحلين الملك الحسن الثاني والرئيس الحبيب بورقيبة.
أما بالنسبة للأجيال الجديدة، فربما يعتبر نجم ليفربول الملتحق حديثا ببايرن ميونيخ، ساديو ماني، أشهر شخصية سنغالية.
السنغال الدولة غرب الأفريقية ذات الأربعة عشر مليون نسمة، رغم تواضع مواردها وإمكانياتها الإقتصادية، تتميز بالاستقرار وديمقراطية عريقة. وهي ترأس حاليا الإتحاد الأفريقي، كما تعتبر دولة محورية في المجموعة الإقتصادية لغرب أفريقيا CEDEAO ، وتلعب أدوارا متقدمة في السلم بالقارة السمراء.
ورغم النفوذ التقليدي لمستعمرها الفرنسي السابق، فقد نجحت دولة السنغال في إقامة علاقات متعددة الشركاء، أوروبية وأمريكية وصينية وروسية وتركية. وتزداد أهميتها الاستراتيجية بحكم موقعها المطل على المحيط الأطلسي واعتبارها حلقة وصل أساسية بين غرب ووسط أفريقيا وشمالها وخصوصا مع حليفها التقليدي المغرب.
وقد تصدرت السنغال جولة المستشار الألماني أولاف شولتس الأولى من نوعها في القارة الأفريقية، وتزداد مكانة هذا البلد في استراتيجية ألمانيا التي باتت القارة الأفريقية في صلبها.
فقد افتتح معهد غوته الثقافي الألماني في العام الماضي فرعا جديدا له، وتشهد المبادلات التجارية والتعاون في ميادين الصحة والطاقة والصناعة والتكنولوجيا بين ألمانيا والسنغال تطورا حثيثا. وفي الوقت الذي تضيق فيه دائرة الاعتماد على الغاز الروسي، تجد ألمانيا في السنغال شريكا أفريقيا واعدا، كما أكد ذلك المستشار شولتس، مبرزا أهمية التعاون بين البلدين في مشاريع الطاقات المتجددة وفي الغاز.
وكما سجل السنغال حضورا بارزا في منتدى الطاقة الألماني الأفريقي الذي احتضنته العاصمة برلين بداية شهر يونيو/حزيران الحالي، وسيكون رئيسه ضيفا في قمة مجموعة الدول الصناعية الكبرى التي ترأسها ألمانيا حاليا، وتلتئم نهاية الشهر الحالي في ولاية بافاريا.
السنغال بلد التعايش
وإذا كانت رئاسة السنغال للاتحاد الأفريقي في زمن حرب أوكرانيا مصادفة، فإن تمثيلها للقارة الأفريقية ليس صدفة. فالسنغال عدا كونه اقتصادا واعدا، ويسجل منذ سنوات عديدة نموا سنويا مستقرا ما بين 5 إلى 7 في المائة، شكل على امتداد عقود قلعة للثقافة الأفريقية الأصيلة، وساهم زعيمه التاريخي سنغور في بلورتها عبر رؤيته "لثقافة الزنوجة".
وفي بداية الثمانينات، عندما كانت الانقلابات العسكرية والرئاسة مدى الحياة عناوين للحكم في دول أفريقية وعربية، تنحى سنغور عن الرئاسة ليتفرغ للثقافة والإبداع، ومنح ديمقراطية بلاده فرصة انطلاقة جديدة عبر قاعدة التداول على السلطة التي لم يشذّ عنها السنغاليون لحد يومنا هذا.
ويقدم السنغال نموذجا متميزا في الاستقرار المجتمعي والأمني، في مرحلة صعبة تجتازها بلدان أفريقية مجاورة. ففي الوقت الذي تشهد فيه منطقة الساحل والصحراء اضطرابات سياسية وانقلابات عسكرية وتفشي أنشطة الجماعات الجهادية مثل "بوكو حرام" و"القاعدة"، يقدم السنغال الذي يضم أقلية مسيحية (5 في المائة) وعقائد أفريقية تقليدية (1 في المائة) إلى جانب المسلمين، الأغلبية الساحقة من سكانه (94 في المائة)، نموذجا متميزا في التعايش والثقافة الدينية المسالمة، معتمدا على تاريخه ونفوذ الزوايا الصوفية وخصوصا منها التيجانية التي يمتد نفوذها من المغرب إلى غرب أفريقيا.
لكن البلد يواجه كباقي الدول الأفريقية، تحديات اقتصادية وصحية بسبب جائحة كورونا وآثار التغير المناخي مضافا إليها تداعيات حرب أوكرانيا. وهو ما يجعل الانتخابات البرلمانية التي يشهدها الشهر المقبل والانتخابات الرئاسية سنة 2024، محطات اختبار جديدة للبلد وأيضا لمستقبل علاقاته مع الشركاء الأوروبيين وخصوصا فرنسا التي يواجه نفوذها تحديات ملحوظة هناك.
منصف السليمي