سيناريوهات كارثية توقد لهيب أسعار الغذاء في العالم
٣ يونيو ٢٠٢٢بدأ الألمان يشعرون بلهيب أسعار المواد الغذائية التي دخلت في دوامة ارتفاع غير مسبوقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولخص الخبير أوريليان دويتوا لدى شركة التأمين التجاري العالمية "أليانز تريد" نتيجة دراسة حديثة بهذا الشأن بالقول: "من المرجح أن ترتفع أسعار بيع المواد الغذائية بالتجزئة لأكثر من 10% في نهاية عام 2022"، وأوضح أن ذلك يعادل في المتوسط 250 يورو كتكاليف إضافية لكل مواطن ألماني. وتؤكد الدراسة أن المواد الغذائية بالتجزئة في المحلات التجارية، لم تعكس بعد الارتفاع الفعلي في أسعار المواد الغذائية في الأسواق العالمية، محذرا من أن "الأسوأ لم يأت بعد بالنسبة للأسر". يذكر أن عشر شركات لتجارة التجزئة للسلع الغذائية أكدت في استطلاع لمعهد "إيفو" الاقتصادي الألماني أنها تخطط لزيادات في الأسعار. ويعزو الخبراء هذا الوضع إلى مجموعة من العوامل المتزامنة والمتشابكة، منها الحرب في أوكرانيا، وارتفاع تكاليف الطاقة والمواد الخام وغيرها من المنتجات الأولية والسلع التجارية، إضافة إلى التغيرات المناخية والجفاف الذي ضرب عددا من مناطق العالم والتداعيات المتواصلة لجائحة كورونا.
وبهذا الصدد كتب موقع "تاغسشاو" التابع للقناة الألمانية الأولى (17/ مايو/ أيار 2022) أنه "في ضوء ارتفاع أسعار المواد الغذائية، فإن عددا من الهيئات الألمانية المعنية حذرت من نقص الغذاء ودعت وزير الزراعة جيم أوزدمير إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية". وبهذا الصدد أوضح كريستيان فون بوتيتشر، رئيس الاتحاد الألماني لصناعة الأغذية: "ستأتي مرحلة ما، لن يكون السؤال فيها هو مقدار تكلفة المواد الخام الخاصة بطعامنا في السوق العالمية، ولكن ما إذا كان لا يزال بإمكاننا الحصول على أي منها". وطالب بوتيتشر بإدارة نشطة وفعالة لهذه الأزمة، في وقت تتوقع فيه الأمم المتحدة أن يزيد عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع في العالم بمقدار 50 مليون. وهذا ما دفع بابا الفاتيكان فرنسيس الأول للإعراب عن قلقه إزاء تعطل صادرات الحبوب الأوكرانية بسبب الغزو الروسي. وقال "لا يجب على أحد استغلال الحبوب، وهي غذاء أساسي، سلاحا في الحرب!". ولا تتمكن أوكرانيا، وهي من المصدرين الأساسيين للحبوب في العالم، من تصدير أي شيء بسبب الحرب.
ألمانيا تسجل مستويات تضخم قياسية
وصل التضخم في ألمانيا خلال شهر مايو/أيار الماضي إلى 7.9% على أساس سنوي بسبب الحرب في أوكرانيا التي فجرتأسعار الطاقة والغذاء. وآخر مرة سجلت فيه ألمانيا مستوى تضخم مماثل يعود ليناير/ كانون الثاني عام 1952. وقد يؤدي هذا الوضع إلى رفع محتمل لسعر الفائدة بمقدار 50 نقطة دفعة واحدة وفق خبراء اقتصاديين. من جهته، أعلن البنك المركزي الأوروبي على لسان رئيسته كريستين لاغارد عن رغبته في رفع أسعار الفائدة اعتبارًا من يوليو/ تموز، متوقعا الخروج من المعدلات السلبية "بنهاية الربع الثالث" من السنة الجارية. توقع متفائل بالنظر للغموض بالنسبة لآفاق إنهاء الحرب في أوكرانيا، إضافة إلى مضاعفات جائحة كورونا والجفاف الذي يضرب عددا من مناطق العالم. وتزداد الضغوطات على لاغارد للتحرك السريع بالرفع من أسعار الفائدة مع دعوتها لاستلهام نهج بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي تصرف في وقت متأخر ولكن بجرأة بعدما رفع أسعار الفائدة على الفور بمقدار 0.5 نقطة مئوية.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "آوغسبورغر ألغماينه" الألمانية (في عدد الأول من يونيو) معلقة: "يجب أن ينتهي زمن الأعذار والتطمينات الأبدية، فإلى متى تريد كريستين لاغارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي الانتظار قبل رفع أسعار الفائدة بشكل ملحوظ؟ (..) سيكون من باب الإهمال رفع أسعار الفائدة فقط في يوليو/ تموز، وبنسبة تافهة لا تتجاوز 0.25 نقطة مئوية. ووفق خبراء اقتصاديين، لا يمكن كبح فقاعة التضخم إلا بتحرك حاسم وسريع من قبل البنك المركزي الأوروبي، رغم أن رفع أسعار الفائدة أمر خطير بالنسبة للبلدان المثقلة بالديون بشكل مزمن مثل إيطاليا.
تداعيات الحرب على محاصيل القمح في أوكرانيا
رجحت أوكرانيا انخفاض محاصيلها من القمحخلال العام الجاري إلى 19.2 مليون طن مقارنة مع 33 مليون طن المسجلة في عام 2021، وذلك لأن العمليات القتالية في عدد من مناطق البلاد قد تجعل الحصاد مستحيلا. ومن المتوقع انخفاض إنتاج الذرة أيضا إلى 26.1 مليون طن بدلا من 37.6 مليون طن الموسم الماضي، بينما سينخفض إنتاج الشعير إلى 6.6 مليون طن بدلا من 10.1 مليون طن عام 2021. وفي أحسن الأحوال قد تتمكن أوكرانيا من تصدير عشرة ملايين طن من القمح و15 مليون طن من الذرة، لكن طاقتها التصديرية الكلية لن تتمكن من تجاوز 18 مليون طن في ظل الظروف الحالية.
ويذكر أن أوكرانيا تعتبر من أكبر المنتجين والمصدرين للحبوب في العالم، تشحن ما يصل إلى ستة ملايين طن من الحبوب شهريا. وتراجعت صادراتها بشكل حاد بعد أن أغلقت روسيا موانئها على البحر الأسود منذ بداية الغزو في 24 فبراير/ شباط. وتضغط القوى الغربية من أجل رفع الجيش الروسي لحصاره على لموانئ الأوكرانية، غير أن موسكو إذا نفذت، فلا شك أنها ستطالب بمقابل لذلك.
ووفقًا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، يتم تخزين 25 مليون طن من الحبوب حاليًا في أوكرانيا ولا يمكن تصديرها بسبب حصار الموانئ. وقال الكرملين إن العالم قد يكون على شفا أزمة غذاء كبيرة وألقى باللوم على "القيود غير القانونية" التي فرضتها الدول الغربية على روسيا وقرارات اتخذتها السلطات الأوكرانية. وبهذا الصدد ذكرت صحيفة "فرانكفورته ألغماينه تسايتونغ" (31 ايو/ أيار) بأهمية الحبوب في سلاسل إنتاج الغذاء في العالم وكتبت "تعتبر الحبوب أهم غذاء للإنسان، يحتوي على الكربوهيدرات وخاصة النشا والبروتين والدهون والعديد من المعادن الأساسية الأخرى. ومنذ آلاف السنين، ارتبط تاريخ البشرية ارتباطًا وثيقًا بتاريخ زراعة الحبوب. في حالة الأزمة الحالية، الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، تعين علينا إعادة التأمل في طرق أخرى لتلبية حاجيات البشرية من هذه المادة الحيوية وبأسرع وقت ممكن".
الجفاف والحرب يفاقمان الوضع الغذائي في إفريقيا
دقت الأمم المتحدةناقوس الخطر بشأن مخاطر المجاعة التي تهدد ملايين الأشخاص عبر العالم منها على سبيل المثال لا الحصر، منطقة القرن الأفريقي المهددة بأسوأ جفاف منذ أكثر من 40 عاما، في خامس موسم على التوالي دون تساقطات مطرية. وذكرت الوكالات المتخصصة للمنظمة الدولية أن موسم الأمطار بين مارس/آذار ومايو/أيار هو الأكثر جفافا على الإطلاق على الأرجح، مما يتسبب في تدمير سبل العيش وتفاقم الوضع الإنساني في إثيوبيا والصومال وأنحاء من كينيا بما في ذلك خطر المجاعة في الصومال. وباتت الملايين من رؤوس الماشية مهددة في المنطقة، في حين سجلت إثيوبيا والصومال وكينيا زيادة قياسية في عدد الأطفال المصابين بسوء تغذية وينقلون للمستشفيات من أجل العلاج مقارنة بالأعوام الماضية. وما يزيد الطين بلة هو اقتران موجة الجفاف هذه مع الارتفاع المهول في أسعار الغذاء والطاقة على مستوى العالم.
ودعت الأمم المتحدة إلى "تعزيز سريع لمبادرات إنقاذ الأرواح بتجنب المجاعة والموت". ويذكر أن 54 دولة في إفريقيا تستورد نصف حاجياتها من القمح من أوكرانيا وروسيا. كما تعد روسيا أيضًا موردًا رئيسيًا للأسمدة لعشرات البلدان الأفريقية. وبهذا الصدد نقل موقع قناة "ز.د.ف" الألمانية (الثالث من يونيو) إعلان تشاد حالة الطوارئ الغذائية كنموذج لتداعيات نقص إمدادات الحبوب بسبب حرب أوكرانيا. فقد أعلنت الحكومة العسكرية في هذا البلد أن الوضع الغذائي تدهور بشكل كبير منذ بداية العام الجاري، مؤكدة الحاجة الماسة للمساعدات الإنسانية الدولية. وذكر الموقع أن رئيس المجلس العسكري، محمد إدريس ديبي أكد أن قطاعات واسعة من سكان البلاد في أمس الحاجة إلى المساعدات الإنسانية وخاصة الطعام.
ووسط مخاوف من كابوس أزمة غذاء عالمية، التقى رئيس الاتحاد الإفريقي ماكي سال في موسكو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إطار الجهود التي يبذلها التكتل، لا سيما لفتح الطريق امام مخزونات الحبوب والأسمدة التي يؤثر توقفها على دول القارة خصوصا. ويذكر أن سال سبق له خلال لقاء مع المستشار الألماني أولاف شولتسفي دكار نهاية مايو/ أيار أن قال إن النزاع في أوكرانيا "يؤثر" على الأفارقة لكنه يدور "في قارة أخرى". ومنذ العام 2019 وتنظيم القمة الروسية الإفريقية في سوتشي، كثفت موسكو جهود توسيع نفوذها في القارة السمراء، وهي تحاول ترسيخ نفسها هناك كشريك بديل للصين أو الغرب، مستفيدة خصوصا من أنها ليست صاحبة ماض استعماري في القارة السمراء.
مؤشرات تفاؤل في بحر من الغموض ..
رغم العوامل السلبية المشار إليها أعلاه، فقد سجلت الأيام القليلة الماضية مجموعة عوامل إيجابية لا تزال هشة، لكنها إن تحققت، فستخلق دينامية تضع حدا للوضع الحالي أو تخفف منه على الأقل. فقد تراجعت أسعار القمح والذرة بشكل ملحوظ في الأيام الأخيرة مع تحسن المناخ في بعض مناطق العالم (خصوصا الولايات المتحدة) بشكل يلائم الزراعات. إضافة إلى الأمل الذي تم الترويج له بشأن فرضية إقامة ممرات بحرية لإخراج الحبوب من أوكرانيا، واحتمال موافقة موسكو عليها. فقد انخفضت أسعار القمح لأول مرة منذ ثلاثة أسابيع بعد إعلان الرئيس فلاديمير بوتين استعداده للتعاون مع تركيا لتأمين حرية شحن السلع في البحر الأسود بما فيها "صادرات الحبوب الآتية من الموانئ الأوكرانية". ويذكر أن الغرب يسعى لضمان "ممرات آمنة" تحت رعاية الأمم المتحدة بغية تقديم "ضمانات أمنية مشروعة" لأوكرانيا التي ينبغي أن تبدأ إزالة الألغام من ميناء أوديسا.
وهناك حوالي 400 مليون شخص حول العالم يحصلون على الحبوب من أوكرانيا، لذلك على الغرب التدخل لضمان سلسلة تصدير الحبوب وفق تعليق لصحيفة "تاغسشبيغل" البرلينية (12 مايو) التي قالت "لا يسعى أحد لمواجهة مباشرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي في البحر الأسود. ومع ذلك، يجب مناقشة ما إذا كان يمكن أن يكون هناك تفويض من الأمم المتحدة من شأنه أن يسمح للدول الغربية بتأمين حرية التجارة للسفن الأوكرانية عبر ممرات معينة. يمكن أن يمتد ممر محتمل من أوديسا إلى ميناء كونستانتا الروماني" على سبيل المثال.