تونس: الفنانون يحتلون المدينة
٤ أكتوبر ٢٠١٢دخلنا ساحة مقرالحكومة، الأسلاك الشائكة ما تزال تحيط بمكاتب رئيس الحكومة ووزرائه ومستشاريه، وتقدمنا قليلا في شارع القصبة. المكان مختلف تماما، هناك حركية وروح جديدة ووجوه مبتسمة. على صيحات مجنونة دخلنا شارع القصبة للكشف عما يحدث. كانت هناك مجموعة من الشباب بصدد تقديم عرض "مسرحي". كانت أيادي الشباب مقيدة، وهم يطلقون صيحات جنونية مفزعة، ويقومون بأدوار ارتجالية أو اعتباطية في الشارع بشكل يدعو إلى التساؤل والاستغراب.
سألنا بعض المارة من الشباب عما يرونه ويعيشونه. وتشابهت المواقف التي اعتبرت أن العرض في الشارع وأمام الناس ضرب من الجنون. إنه عرض "للتظاهر بالجنون" أو "التصرف بحرية مطلقة". كان البعض من الجمهور يضحك والبعض الآخر يتابع ما يحدث أمامه مندهشا. ودون الشعور بذلك أصبح بعض المصورين وغيرهم من المارة ومن موظفي الإدارات المجاورة وتلاميذ المعاهد القريبة مشاركين في الفوضى التي خلقها. فالفنانون كسروا القوانين الاجتماعية المنظمة للشارع والمارة تبعوهم في حركة لاإرادية. فأصبح الشارع مرقصا ومسرحا ومدرجا للفرجة في آن واحد.
واصلنا الخطى داخل المدينة العتيقة، وتتبعنا مسار بعض الشباب من طلبة المدارس، وفي إحدى ثنايا المدينة وفي منعطف بنهج الدريبة تقابلك الراقصة إيمان السماوي بحركات ساحرة على أنغام موسيقى مبتكرة في عزف للفنان الفرنسي سيق فريد ومرافقة الفنان منير الطرودي الذي يهمس بصوته نغمات دافئة.
وتقول ايمان السماوي في حديث عن عرضها لـ DWعربية "ليس هناك وجه شبه بين الشارع وخشبة المسرح، بالنسبة للفنان هناك أحاسيس واختلاجات مختلفة. في الشارع هناك إحساس بروائح المدينة وتأثيرات الفضاء والناس، وهناك طاقة من نوع آخر، قوة الجسم في تفاعله مع المحيط". وتؤكد ايمان "أن عرضها ارتجالي محض، وثمرة لقاء ثلاثة فنانين بالصدفة".وتحاول الراقصة أمام جمهور مختلط من مختلف الأعمار، اكتشاف مدينتها والتغني بها عبر حركات متناغمة مع الضوضاء المحيطة وإيقاعات الموسيقى المرافقة. كما يرى الشباب الذين شاركناهم العرض الفني أنها فرصة للخروج من الواقع اليومي ونسيان الناس من حولك، وفرصة للحديث إلى الناس والتعرف إليهم.
تابعنا جولتنا في المدينة القديمة، وفي سوق العطارين وغير بعيد عن جامع الزيتونة وبإحدى قاعات المكتبة الوطنية، قابلنا ملاك السباعي، راقصة ومصممة رقصات. قالت في حديثها لـ DWعربية "لقد حاولت أن أقدم رقصات معاصرة على وقع أنغام من الماضي. حاولت إشراك رشدي، راقص عصري لخيرة عبيد الله، إحدى راقصات الفرقة التونسية للفنون الشعبية وسعيت للمزج بين الأنغام والإيقاعات التقليدية والروح العصرية. لقد حاولت ادماج الجمهور في العرض وصنع الفرجة في تلاحم بين الراقصين والجمهور".
وفي تفاعل بين جمهور الشباب والعرض، قابلنا أمال بن خود وزميلاتها، وهن يتصببن عرقا بعد مساهمتهن في عرض للفنانين الراقصين. وقالت أمال لـ DW/ عربية: "في البداية لم أفهم مغزى العرض، كان الرقص غريبا رغم أن الألحان والإيقاعات محلية وشعبية تذكرنا بأغاني تراثية معينة، وشيئا فشيا وقعت في غرام العرض وشاركت في الرقص مع الراقصين على أنغام الموسيقى الشعبية".
وفي ساحة البركة الشهيرة ببيع الذهب والفضة أقام شباب فرقة "التياترو" مسرحا مفتوحا تحيط به دكاكين الذهب والمجوهرات. هناك كان يباع العبيد في العهود الغابرة. وعاد الفنانون بجمهورهم إلى سنة 1846 تاريخ إلغاء الرق والعبودية بأمر من باي تونس. فجسدوا هناك كيفية تجارة بيع العبيد والغلمان في نبش للتاريخ بكل آلامه وآماله. وحكى شباب "التياترو" قصة سعدية التي كانت تبحث عن أبيها، الملك الإفريقي، الذي كان يغني للناس في الشوارع.
وغير بعيد عن سوق البركة، وفي دار الحداد، عرضت مريم بودربالة نظرة "متشائلة" (على حد تعبير الأديب الفلسطيني الراحل إيميل حبيبي) لتونس بعد الثورة في عمل فني تشكيلي، فقد علّقت الفنانة ثماني صور فوتوغرافية كبيرة مقلوبة تم تصويرها من فوق أسطح المدينة العتيقة للتعبير عن "سراب الثورة الزائل"، غير أنها تركت حيزا كبيرا من الأمل في فضاء الصور.
قارب الوقت غروب الشمس، وخرجنا من أزقة المدينة العتيقة لندخل مأوى القصبة الكبير بطوابقه الأرضية الثلاثة لنكتشف عالما شبه مظلم، عالم السجون كما قدمته هالة عمار من خلال تركيبات تشكيلية صوتية وبصرية، فعبر الصور أخذت الفنانة الجمهور الزائر للمأوى إلى أجواء السجن وظلماته وعذابه. لم نطل المكوث في أجواء الظلام والظلم وصعدنا سلم المأوى لنجد أمامنا ساحة القصبة الشهيرة. لم يكن هناك اليوم اعتصام بالقصبة ولا لافتات احتجاج أو مطالب، وإنما عرض يجمع بين فريقين من "التونسيين الخارقين" في مواجهة على "ملعب المواطنة" في أداء مسرحي مبتكر حول موضوع "التونسي الخارق" من تقديم الفنانة مفيدة فضيلة.
ويرى المتابعون للعرض على غرار محمد وزميلته خولة، الذين حاورناهما أن عرض "التونسيين الخارقين" سلّط الأضواء على العلاقة بين الفن والحياة والمحيط واهتمام الشاب التونسي بالشأن العام السياسي. ويضحك محمد بتهكم في تعليقه على مصطلح "الدستور الخارق" في النص المصاحب للعرض ويقول "في الحقيقة اكتشفت اليوم أنه يمكن أن نكون "خارقين" في فعلنا اليومي كما أن الساسة التونسيين "خارقون" في فعلهم السياسي".
وتلاحظ مريم قلوز، باحثة في الفنون أن جمهور مهرجان فن الشارع يغلب عليه طلبة الفنون الجميلة والهندسة المعمارية والسينما والمسرح والمارة ولكن "لم أر شباب الأحياء الشعبية وشباب المدينة العتيقة"
وترى مريم قلوز أن فن الشارع الذي غمر تونس العتيقة هذه الأيام "بعث حركية في المدينة وبث فيها الروح ودعا الشباب والمهتمين بالشأن الثقافي إلى إعادة اكتشاف المدينة وأحيائها وأزقتها" واستخلصت قائلة: "لقد رأيت وعايشت نقاشات وحوارات بين الناس في جو متميز غاب منذ أشهر عن المدينة ".