ثوار ليبيا في مصيدة الانتقام من مواطنيهم الأفارقة
٢٢ يناير ٢٠١٣تسير امرأة طاعنة في السنّ قصيرة القامة منحنية الظهر نظراً لثقل حزمة الحطب التي تحملها على كتفيها، ويسير إلى جانبها حفيدها ذو العشرة أعوام، حاملاً عبوة ماء يوازنها على رأسه. إنهما لاجئان في طريق العودة إلى بيتهما الجديد في حصن باب العزيزية المدمَّر، وهو ذات الحصن الذي كان معقل الدكتاتور القتيل معمر القذافي.
ستة هكتارات من الركام والرماد هي ما خلفتها قنابل حلف الناتو ودبابات الثوار في "مركز سلطة القذافي"، الذي كان المواطنون الليبيون لا يجرؤون على الاقتراب منه لعقود من الزمن. وها هو اليوم يصبح ملاذاً لنحو عشر عائلات من اللاجئين سود البشرة، بعد أن كان يقطنه جنود النخبة والقناصة.
اللاجئون يقضون لياليهم في غرف جرداء كانت في السابق جزءاً من ثكنة عسكرية، في المبنى الوحيد في باب العزيزية الذي نجا من الدمار الكبير جرّاء اقتحام الثوار لهذا الحصن في الثالث والعشرين من آب/ أغسطس 2011.
لا يجرؤ الكثير من اللاجئين هنا على مغادرة هذا المكان أثناء النهار. فقد أمضوا عدة أيَّام هربوا فيها من مدينتهم تاورغاء، مجتازين الصحراء إلى طرابلس أثناء الحرب الأهلية؛ والخوف مازال يرافقهم.
"نعيش مثل الحيوانات"
"نحن نعيش هنا مثل الحيوانات. ورغم ذلك فهم يريدون قتلنا". هذا ما تقول المرأة المُسِنّة بلهجة مستاءة وهي تشير بالحطب باتجاه مصراته، وتعني بكلامها الثوار المقاتلين من أبناء مدينة مصراتة الواقعة على بعد مئتي كيلومتر إلى الشرق من العاصمة طرابلس.
لقد صنع الثوار من أبناء هذه المدينة الساحلية لأنفسهم اسماً كأشجع معارضي معمر القذافي، وسجلوا بطولات أثناء الثورة الدامية. لكنهم منذ ذلك الحين يحتلون مراراً وتكراراً عناوين الصحف السلبية، وذلك بسبب مهاجمتهم للاجئين المنحدرين من تاورغاء الليبية وبسبب وخطفهم وتعذيبهم لهم.
بعض اللاجئين تشبه أحوالهم حال الشاب فرج محمد ذي الأربعة والعشرين عاماً، الذي كان طالباً في كلية الطب إلى حين اندلاع الثورة. لكن قبل بضعة أشهر ألقى بعض المقاتلين من مصراتة القبض عليه أثناء تنقله في إحدى ضواحي طرابلس. واحتجزه الخاطفون طيلة أسابيع في قبو، حيث كانوا يعذِّبونه بكابلات الكهرباء. ويقول وهو يعرض آثار التعذيب على جسده: "اتهموني بدعم نظام القذافي. يجب أن يعلم الثوار أنَّ الحرب قد انتهت".
من جنة إلى مدينة أشباح
يعتبر الأشخاص ذوي البشرة السوداء من أكبر الخاسرين جراء الثورة الليبية، إذ تتم معاملتهم في كثير من الأماكن كأكباش فداء عن الجرائم التي اقترفتها ميليشيات القذافي، ويشتبه بأنَّهم من المرتزقة الأفارقة الذين كانوا يقاتلون لصالح جيش القذافي، وشكَّلوا أثناء الحرب الأهلية قواته الخاصة الأكثر رعبًا وهيبة.
قبل الاضطرابات السياسية في ربيع عام 2011، كان أكثر من مليون شخص إفريقي من دول الساحل ومن غرب إفريقيا يعملون في ليبيا. لكن عددهم تراجع كثيراً حالياً، بعد عودة الكثيرين منهم إلى بلادهم.
لكن هذا الخيار غير متاح أمام الطالب فرج محمد، المواطن الليبي الذي وُلِد في ليبيا، فهو من أبناء قبيلة تاورغاء، الذين تنحدر أصولهم من العبيد الأفارقة الذين تم جلبهم في الماضي البعيد إلى خليج سرت واستقروا حتى اندلاع الحرب الأهلية على واحة تاورغاء، التي تحمل اسم قبيلتهم. كانت تاورغاء جنة لسكانها بما فيها من أشجار النخيل وبساتين الفاكهة ووفرة المياه الجوفية.
لكن تاورغاء باتت الآن مدينة أشباح، فقد هدم ثوار مصراتة بيوتها بالدبابات وأحرقوا شجر النخيل فيها. كذلك تم تدمير جامعة تاورغاء التي افتُتحت في عام 2010. كما تم إتلاف لوحة المرور التي تحمل اسم تاورغاء، وهي اليافطة التي كانت مرفوعةً على الطريق السريع المؤدي إلى المدينة.
"كيف يمكننا ألأّ ننتقم؟"
قبل اندلاع الثورة، كانت العلاقات لا تزال سلمية بين كلّ من مدينة مصراتة ومدينة تاورغاء، التي تقع على بعد أقل من ساعة بالسيارة جنوب مصراتة. لكن بعد بدء الثورة قام مرتزقة القذافي بالهجوم على مصراتة وفرضوا عليها حصاراً استمر عدة أشهر وسقط فيه عدة آلاف من أهالي مصراتة.
وحتى الآن ما تزال آثار الحرب واضحة على أجزاء كبيرة من هذه المدينة الساحلية. ويُحمِّل الثوار أهالي تاورغاء المسؤولية عن هذا القتل والدمار، ويتهمونهم بإيواء جنود القذافي لديهم، بل ويقول الثوار إنَّ أهالي تاورغاء شاركوا في جرائم الحرب التي ارتكبتها كتائب القذافي ومرتزقته. وفي هذا الصدد يقول الشاب علي، وهو من مقاتلي كتيبة نسور مصراتة متسائلاً: "لقد انتهك رجال تاورغاء حرمة نسائنا. فكيف يمكننا ألاّ ننتقم منهم؟"
لا يمكن التحقُّق تماماً من صحة هذه الاتهامات. لكن المؤكَّد هو أنَّ ميليشيات مصراتة بدأت منذ ذلك الحين بمطاردة أهالي تاورغاء، وفي العام الماضي قال أحد القادة العسكريين للثوار لصحيفة "سانداي تلغراف" البريطانية إنَّ "تاورغاء لم تعُد موجودة، لا توجد الآن سوى مصراتة".
غارات مستمرة على مخيمات اللاجئين
زد على ذلك أنَّ اللاجئين الذين تشرَّدوا من تاورغاء لا يأمَنون على حياتهم حتى في العاصمة طرابلس، حيث يقتحم أفراد الميليشيات مخيَّمات اللاجئين مراراً وتكراراً بحثاً عن الشباب. وقبل بضعة أشهر قُتل العديد من النساء والأطفال في أحد هذه الهجمات التي تتعرَّض لها مخيَّمات اللاجئين.
يوجد نحو 1300 شخص في عداد المفقودين من سكَّان تاورغاء، الذي يبلغ عددهم 42 ألف نسمة، بحسب عبد الرحمن شكشك، رئيس أحد مخيَّمات اللاجئين التي تديرها الأمم المتحدة في طرابلس. ويعتقد شكشك أنَّ معظم هؤلاء المفقودين موجودون في سجون التعذيب بمصراتة.
ويقول شكشك إنَّ اللاجئين والعمَّال الأجانب ذوي البشرة السوداء يتم استهدافهم باستمرار من قبل المقاتلين الذين شاركوا في الحرب ضدّ ميليشيات القذافي.
انتقاد لأداء الحكومة
ومنذ شهر آب/ أغسطس 2012 تقوم الحكومة الجديدة بنشر جنود من أجل حراسة بعض المخيَّمات الموجودة في العاصمة. بيد أنَّ اللاجئين ما زالوا ينتظرون المساعدة القانونية حتى يومنا هذا. ويقول فرج محمد مشتكياً: "يتم عقابنا بشكل جماعي على أخطاء اقترفتها زمرة قليلة". ويضيف أنَّ الحكومة لا تبدي أيضاً أي اهتمام في إجراء عملية المصالحة التي اقترحها شيوخ قبائل تاورغاء.
وبالإضافة إلى ذلك، يتَّهم الناس في مصراتة السلطة الجديدة بالفشل. ويقول رئيس دائرة المخابرات المحلية إنه قدَّم للحكومة في طرابلس قبل عدة أشهر قائمة تضم أسماء ثلاثة آلاف شخص مطلوب من تاورغاء، مضيفاً أنَّه ما يزال ينتظر الرد. كما أنَّ مقاتلي ميليشيات مصراتة يريدون الاستمرار في تنصيب أنفسهم قضاة وجلادين دون محاكم، طالما لم يتلقّوا أي استجابة من العاصمة.
ماركوس زومانك
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013