جبل محسن ــ باب التبانة: خطوط التماس المجبولة بعرق الفقراء
٢٧ أغسطس ٢٠١٢كانت لحظات الهدوء الحذر التي خرقها بعض رشقات رشاشة من الجانبين، فرصة ذهبية للوصول إلى شارع سوريا الفاصل بين باب التبانة وجبل محسن في طرابلس. محور قديم متجدّد يذكّر اللبنانيين بالحرب الأهلية، والوقود دائماً الفقراء من الجانبين.
كانت الشوارع شبه مقفرة، والمسلحون قد أخفوا أسلحتهم في استراحة المحارب، مستفيدين من هدنة بدت هشّة. لكن الوصول إلى شارع سوريا الواقع تحت مرمى مقاتلي جبل محسن كان أشبه بالجنون، حيث تنعدم الحركة ويسود الخوف.
سنّة وشيعة و "نصيريّون"
المعركة لم تعد بين مؤيدي النظام السوري ومعارضيه فقط، فهي معركة "بين "النصيريين" العلويين وشيعة حزب الله وبين أهل السنة"، هكذا يختصرها الرجل الملتحي الذي أخفى سلاحه، محتفظاً بمسدس على خاصرته اليمنى. لكنه يؤكد أن "المعركة الأخيرة هي تنفيس عن ضغط يعاني منه النظام السوري، خصوصاً بعد فشل مخططه الذي كان يقوم به الوزير السابق ميشال سماحة".
في أحياء باب التبانة والملولة والقبة والمنكوبين المحيطة بالجبل، ينتشر المقاتلون من دون أسلحة ظاهرة، لكن لسان حالهم يقول إن "السلاح جاهز حين تحتدم المعركة". يقول بائع الخضروات الشاب العشريني: "شاركت في المعارك بعدما أصيب بيتي بقذائف من الجبل واحترق".
ليسلّم حزب الله سلاحه
أما الرجل الملتحي الذي أحاط به شباب ملتحون وغير ملتحين، كأنه أحد كوادرهم، فقد تحدث عن معاناة أهالي باب التبانة التاريخية، مُحمّلاً المسؤولية كل المسؤولين، بمن فيهم نواب ووزراء طرابلس ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري.
"مسلحو باب التبانة ليسوا مدعومين من أي جهة"، يقول الكادر السلفي، محوّلاً الاتّهام إلى المسؤول السياسي للحزب العربي الديمقراطي "العلوي" رفعت عيد.. "المأجور لسوريا".
يشدد الرجل الخمسيني لـ DW عربية، على أن "سلاحنا هو من نقودنا الخاصة ولن نسلّمه للدولة حتى لو سلّم الطرف الآخر سلاحه. نحن نربط تسليم سلاحنا بتسليم سلاح حزب الله".
يجلس أبو محمد تحت يافطة تذكّر بابن باب التباني الذي اغتالته الاستخبارات السورية في الثمانينات، خليل عكاوي "أبو عربي"، قائلاً "لو كان أبو عربي حياً لما تجرأ أحد على باب التبانة". يؤكد الرجل أن الفقراء في هذه الأحياء هم وقود صراع الدول والأجهزة، وهم الذين يدفعون ثمن الدفاع عن وجودهم لوحدهم.
أما أبو عمر فيعتبر أن سبب المشكلة هو ولاء جبل محسن للنظام السوري و"قرار الحسم بأيديهم، أي السوريين، وبأيدي الجيش اللبناني".
يشتكي أبو عمر لـ DW عربية، من أن المسؤولين لا يلتفتون إلى الناس في هذه الأحياء المنكوبة، لا اقتصادياً ولا اجتماعياً ولا طبياً. مشيراً إلى أن المسلحين "كلهم موظفون ولديهم مهنهم وأعمالهم الخاصة، لكن حين تتعرض أحياءهم للاعتداء يضطرون إلى حمل السلاح للدفاع عن أعراضهم وأهلهم".
بحسب تحليل الصحافي عبد الكافي الصمد، فإن الأزمة بين المنطقتين ليست طائفية بل هي سياسية بالدرجة الأولى، بين مؤيدي النظام السوري ومعارضين له منذ عقود "لكنها اتخذت لاحقاً بُعداً مذهبياً بين السنة والعلويين".
يوضح الصمد، لـ DW عربية، أن نسبة العلويين في عاصمة الشمال اللبناني لا تتجاوز العشرة في المائة وأن 40 في المائة منهم يقيمون خارج جبل محسن، الحي العلوي الرئيسي في المدينة، حيث تربطهم بأهل السنة علاقات اقتصادية واجتماعية واسعة، منها علاقات مصاهرة ونسب. ويشير إلى أن 75 في المئة من سكان باب التبانة يعيشون خارجها بسبب الأزمة.
الأزمة مرتبطة بسوريا
أمّا رئيس "لجنة المساعي الحميدة"، الشيخ نبيل رحيم، فيلخّص أسباب الأزمة لـ DW عربية، بثلاثة أمور: "الأمر الأول هو الاحتقان الطائفي الموجود في طرابلس، الأمر الثاني هو الاصطفاف السياسي الحاد بين 8 و14 آذار، والثالث وهو الأخطر، تداعيات الأزمة السورية ومحاولة نقل هذه الأزمة إلى طرابلس".
وفي رأي الشيخ أن "لا حل جذري لهذه المشكلة قبل انتهاء الأزمة السورية"، محمّلاً عناصر الحزب العربي، مسؤولية بدء المعركة وخرق وقف إطلاق النار.
رأس مقابل رؤوس
بسبب الخوف من القنص لم تستطع DW عربية عبور خط التماس نحو جبل محسن، فاكتفت بالاتصال بالمسؤول الإعلامي في الحزب العربي الديمقراطي، عبداللطيف صالح، الذي شرح وجهة نظر الطرف الآخر، قائلاً إن جبل محسن "يتعرّض لقنص من بعض المحاور".
يصف صالح طبيعة النزاع الدائر بأنه يدور بين حزبه وبين أطراف عديدة من الجهة الأخرى، قائلاً "لدينا رأس واحد لكنهم لديهم رؤوس عديدة وهم مخترقون من الجيش السوري الحر مروراً بالتكفيريين وبعض السلفيين".
وعن علاقة ما يحدث في سوريا بتطورات طرابلس، يوضح المسؤول الحزبي أن "ما يجري في سوريا يبقى في سوريا، أما نحن في لبنان فلم ولن نكون صندوق بريد لأحد"، متّهماً الأطراف الأخرى بعرقلة الحل من خلال استبعاد الحزب العربي عن اجتماعات السياسيين والفعاليات، التي تنعقد لمعالجة الأزمة.
مشكلة أطفال
يختم صالح حديثه، قائلاً إن "قرار جبل محسن مرتبط بشخص رفعت عيد، الذي قرر المجتمع المدني والمجلس الإسلامي العلوي تكليفه بتمثيل الطائفة".
بدوره، يعزو الكادر في الحزب العربي، يوسف عبد الكريم، التطورات الأخيرة في المنطقة إلى مشكلة حدثت يوم عيد الفطر بين طفلين أحدهما من الجبل والآخر من التبانة، بسبب بنادق الخرز "ألعاب"، مذكّراً بحرب لبنان عام 1860 التي اندلعت بسبب لعبة "كلة" بين صبي درزي وآخر مسيحي.
ويتهم عبد الكريم أثناء اتصال أجرته معه DWعربية، طرفاً ثالثاُ باستغلال الخلافات بين الجانبين لتأجيج الفتنة وخرق اتفاق وقف إطلاق النار، من دون أن يكون هناك سبب سياسي مثلما يصوّر البعض، كقضية العلاقة مع النظام السوري وقضية القبض على الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة. لكنه يقرّ بأن حزب الله هو من يدعم مقاتلي الجبل بالسلاح.
وفيما يتهم مسلحو باب التبانة الفرقة الرابعة في الجيش بأنها متواطئة ضدهم "لأنها تأتمر بأوامر شقيق الرئيس السوري العميد الركن ماهر الأسد"، يتهم عبد الكريم اللواء 12 وفرقة المغاوير في الجيش بأنها استهدفت منازل الجبل بنيرانها.
و يشير إلى أن محلات أبناء طائفته في طرابلس تعرّض جزء منها للحرق أو للتخريب لأسباب طائفية.
لعل المشكلة في طرابلس تتلخص بحكمة ذكرها لـ DW عربية، بائع عصير الليمون الطرابلسي المُتنقل، أبو عبد، مستعيراً بيتاً من شعر لنزار قباني، يقول فيه: "في بلدتنا، يذهب ديك يأتي ديك، والطغيان هو الطغيان.. يسقط حكم لينيني.. يهجم حكم أمريكي، والمسحوق هو الإنسان".