دكان "ابو وليد" وتسونامي "المول" في بيروت
١٨ يناير ٢٠١٢ما زال "أبو وليد" صاحب دكان السمانة الصغير في أحد متفرعات شارع الحمرا، ينازع للبقاء في مهنته. هو كديك الحي، يظهر مع ضوء الصباح الباكر ويختفي بعد مغيب الشمس بقليل. يلقبه أهل الحي بـ"المختار" بعدما نزح إلى بيروت منذ ستينات القرن الماضي قادما من الجبل، فباتت لهجته البيروتية الأصيلة تغش من لا يعرف جذوره الجبلية. يعتبر ملما بأسرار الحي الذي يقبع فيه محله الصغير. ومن يريد الإستطلاع عن أي أمر، ليس عليه إلا أن يقصد الدكنجي "أبو وليد". هو رجل عجوز في منتصف الستينيات، يعرف بين الصغار بـ "جدو" الذي يشبهه إلى حد كبير بشاله وقبعته الصوف وسترته الجوخ الطويلة ونظارتيه الزجاجيتن السميكتين والعصا الخشبية التي ترافقه في كل خطواته.
دكانه الملتصق بالحي منذ عشرات السنين، يعتبر معلما تاريخيا. فالحي تبدل، تغيرت مبانيه، دمر القديم منها وشيد مكانها الجديد، هاجر سكان وأتى سكان جدد، لكن "أبو وليد" لايبارح مكانه، كالجبل الراسخ لا يهزه شيء مهما تقدم إليه من عروض مادية مغرية لبيع الدكان. هذا باب رزقه الوحيد بعدما تزوج أولاده وهاجر منهم من هاجر وبقي آخرون في لبنان. يحب "أبو وليد" أن يبقى عالقا في نوستالجيا "الزمن الذهبي" حينما كان ملك الحي، ليس هناك من منزل إلا ويتبضع أهله احتياجاتهم من محله. يتذكر كيف كان الناس يعيشون في محابة وألفة سابقا، أما الآن فالسياسة هي سياسة فرق تسد لذا علق على باب دكانه "ممنوع الحكي بالسياسة". يتذكر أيام الحرب الأهلية حينما كان دكانه بمثابة "المخلص" لأبناء المنطقة "فالخبز دائما متوفر والغاز في فترات انقطاعه".
الزمن تبدل، لكن "أبو وليد" ما زال على حاله. محله يتماهى مع مشهد محل أي "دكنجي" آخر. رفوف حديدية تمتلئ بالبضاعة على أنواعها، مساحيق تنظيف ومنتجات غذائية، و"أبو وليد" دائما يفضل الوطني منها، لكن "موضة الإستهلاك" كما يحب أن يسميها تفرض عليه بيع منتجات أخرى أجنبية. خارج محله، مساحة صغيرة افترشت عليها صناديق بلاستيكية تحتوي ما تتطلبة ربة المنزل لصنع "طبخة اليوم" من خضار وفواكه على أنواعها، والأهم تلك العناقيد الصفراء المتدلية من السقف "موز بلدي" لمن ضاق ذرعا من ذلك المستورد بأحجام كبيرة إضافة إلى أكياس من الخبز الطازج التي غالبا ما تختفي مع تقدم ساعات النهار.
ثقافة الإستهلاك الجديدة تنافس المحلات الصغيرة
يستقبلك دائما بابتسامة ويبادر إلى الحديث، فيسأل الأم عن أبنائها والأب عن أشغاله والأولاد عن مدارسهم وجامعاتهم. أما الشباب فغالبا ما يستعرض معهم الجديد من "النكت الضاحكة" والساخرة من وضع البلد.
يقول أن مهنته تتطلب الكثير من اللباقة والصبر. هذه هي الحرفة وهذا مفتاح النجاح والمنافسة برأيه. "يجب أن تكون لطيفا وترحب بالزبائن كما في بيتك لتجذبهم إليك". فممنوع النق أو الغضب. في المقابل، يبدو "أبو وليد" على الرغم من كبر سنه كالإسفنجة التي تمتص كل المشاعر السلبية، أما أحزانه فيتركها له وحده "الزبون يتوق إلى الكلام عن مشاكله لا عن سماع مشاكل الآخرين". فالمهنة كما يقول كانت مربحة أكثر في السابق "تستر عائلة كبيرة مع أولاد". والسبب برأيه هو ثقافة الإستهلاك الجديدة التي سادت منذ سنوات قليلة وطفرة "المول" والسوبرماركت. فالشباب ومنهم المتزوجين الجدد يفضلون التبضع من المجمعات التجارية الكبيرة التي تقدم الخدمات الغذائية والترفيهية للعائلات. "يبدو الدكان الصغير كقزم أمام عملاق كبير يأكل الأخضر واليابس" يقول "أبو وليد" ويضيف "لم يعد رائجا أن تكون الاسواق التجارية مؤلفة من شارع ومحال تجارية إلى جانبه، إذ تبتلع المجمعات التجارية المنتشرة في المناطق الأسواق التقليدية وتنافسها عبر الترويج لنمط استهلاكي جديد وأكثر جاذبية وتقديم منتجات كثيرة في مساحة واحدة". وعلى الرغم من ذلك، يبدو تفاؤله واضحا إذ يرفض ترك هذه المهنة إلا إذا اجبره الموت على ذلك "ماذا أعمل وأنا على عتبة السبعين" يسأل "أبو وليد".
يقطع حديثه رنين الهاتف، "صباح الورد يا مدام.. حاضر خمس دقائق وتكون الأغراض جاهزة على باب المنزل". يسجل "أبو وليد" ما طلبته السيدة على ورقة "فالذاكرة خفيفة ولم تعد تعينني". يطلب من الشاب الذي يعمل لديه بتحضيرها وايصالها إلى العنوان.
من هم زبائنه الجدد إذا؟ يقول "أبو وليد" أنهم من تلامذة المدارس الذين يزورون الدكان صباحا لشراء الحلوى وربات المنازل الذين يتكلون على خدمة "الديليفري" التي يقدمها إذا نقصهم شيء فجأة لإيصال احتياجاتهم إلى المنازل. لكن هناك أيضا ما يحب أن يسميهم بـ"الزبائن المخلصين" الذين مهما تغير الزمن لا يتوقفون عن عادة التبضع من دكانه، خاصة أنه يتبع أسلوب الشراء بالدين "الظروف صعبة ورب المنزل لا يتمكن دائما من تسديد كل ما يشتريه إلا نهاية الشهر عند قبض راتبه". وهناك الموظفين في المؤسسات المحيطة به الذين يشترون "لقمشات" النهار من عنده.
يدخل أحد الزبائن إلى الدكان، يرحب به "أبو وليد" على طريقته "أهلا وسهلا بالجار" يتبادلان أطراف الحديث عن طقس الشتاء السيء وأحواله. يطلب الجار احتياجاته ويخرج.
دكان "ابو وليد" بمثابة منزله يقضي فيه ساعات طويلة أكثر من أي وقت يقضيه في المنزل. وعائلته الكبيرة هي سكان الحي، شيوخه وشبابه، نسائه وأطفاله. سيبقى "أبو وليد" سلطان مملكته الصغير مهما اقتربت منه أنياب "المول" والسوبرماركت، ببساطة لم يعتد الجلوس في المنزل.
دارين العمري-بيروت
مراجعة: هبة الله إسماعيل