رشا حلوة: عن ذكرى إعادة توحيد ألمانيا.. ودغدغة الأمل العربي
٣ أكتوبر ٢٠١٨تحتفل ألمانيا اليوم، الثالث من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2018، بالذكرى الثامنة والعشرين لإعادة توحيدها، حيث ضُمّت فيه جمهورية ألمانيا الديمقراطية، أو ما كان يُعرف بألمانيا الشرقية، إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية، أو ما كان يُعرف بألمانيا الغربية، و"ما كان يُعرف" هو تعريف غير دقيق نوعًا ما، لأن بشكل ما، ما زال التعريفان مستخدميْن حتى يومنا هذا، على الأقل في الخطاب اليومي بين الناس.
الكثير منا يعرف تاريخ ألمانيا، كما أن الكثير منا يدرسه في المدارس، فالتقسيم والجدار ومن ثم سقوطه وتوحيد ألمانيا، هي تفاصيل ربما عامة نعرفها، لكنها جزء أساسي لمعرفة المكان، سواء كسائح تصل إلى ألمانيا وبالأخص برلين، وتطلع على تاريخها وحاضرها، أو كشخص انتقل للإقامة في المدينة، بشكل قسري أو اختياري، بسبب الواقع السياسي في المنطقة العربية أو بسبب خيارات ذاتية.
مما لا شك فيه، فإن برلين هي الشاهدة الأكبر على التقسيم الذي كان بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، وعلى جدار فرّق أبناء وبنات المدينة الواحدة عن بعضهما البعض، وحتى أبناء وبنات العائلات الواحدة، حيث أن التقسيم لم يكن فقط بمنع الحركة أو محدوديتها، بل بأنظمة سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة عاشها الناس، أثّرت عليهم، وربما ما زالت تؤثر حتى يومنا هذا.
سأتحدث أكثر عن بقايا التقسيم الذي كان، لكن بداية، من المهمّ الإشارة إلى أنه رغم ذلك، يظل تاريخ مدينة برلين تحديدًا، مدعاة للفخر، خاصة فيما يتعلّق بسقوط الجدار ومن ثم إعادة التوحيد، والأهمّ، بأنه يدعو لطرح الأسئلة ودغدغة الأمل قليلًا، خاصّة لنا، نحن القادمين من بلاد تواصل سلطاتها السياسية المتنوعة نهج تقسيم الأرض وتفرقة الناس عن بعضهم البعض، وخلق جدران لا من إسمنت فقط، بل من كراهية، سنحتاج سنوات كثيرة لنعرف كيف ندمرها.
من خلال لقاءات عديدة مع أصدقاء وصديقات من سوريا، تعود هذه المقاربة بين ألمانيا وسورية، بين زمنيْن لربما يعيش المكان الثاني مثل الأوّل، باختلاف التفاصيل، لكن بنفس الألم والدمار والحاجة لسلام لناسه وأرضه والمطالبة بهما. ومع ذكرى إعادة التوحيد، قررت التحدث مع مجموعة من الأصدقاء والصديقات من سوريا، المقيمين/ات في برلين، عن معنى هذه الذكرى بالنسبة لهم/ن، وماذا تعني لهم اليوم تحديدًا وفي السياق السياسي لسوريا من جهة، ومعرفتهم بمدينة برلين وتاريخها من جهة أخرى.
في حديث مع ديما من سوريا، ومقيمة في برلين، عن مشاعرها تجاه إعادة توحيد ألمانيا، قالت: "مع وصولي إلى برلين، كانت لدي فكرة إيجابية جدًا عن التوحيد، وكم هو ممكن أن نتعلّم منها بالفعل في بلادنا التي تحتاج أحيانًا بين قرية وأخرى إلى إعادة توحيد. لكن اليوم، بعد سنوات وبعد حديث مع أشخاص كثيرين، أعرف أن الموضوع ليس بهذه الرومانسية والإيجابية التي يُحكى عنهما، بل هنالك مشاكل وأحيانًا عدم إنصاف بين سكان الغربية والشرقية، رغم كل الاستثمارات التي ضُخَّت بالشرق، ما زال هنالك هجرة منه إلى الغرب". تعيش ديما في حيّ بمنطقة برلين الشرقية، عن هذه المنطقة تقول: "أشعر أن الشرقية أبرد نوعًا ما، فارغة أكثر، طبيعة البناء تفرض نفسها، رغم أن الحيّ يقع في منتصف برلين، لكن البنايات كبيرة والشوارع فارغة لا تشجعك على المشي ولا الاكتشاف وليست حميمية، ولا تستطعين بناء ذاكرة في زواياها، لا أشعر بالحيوية فيها كما حيوية الأحياء الغربية".
آراء المقيم في المدينة تختلف بالضرورة عن شعور السائح فيها، فالاحتكاك اليومي بالفضاء العامّ والاستماع إلى قصص الناس الذين عاشوا تلك الحقبة الزمنية ما قبل إعادة التوحيد وما بعد، تعطيك بعدًا آخر للمكان، تعرفه أكثر، وحتى إن وصلت إلى مقهى في حيّ ما لأوّل مرة، لن يكن من الصعب معرفة إلى أي شقّ من المدينة كان هذا الحيّ يتبع.
بالنسبة لهبة، وهي من سوريا، ومقيمة في برلين، تقول: "بالنسبة لي، كشخص قادم من حلب، عندما خرجت منها كانت مقسّمة غربية وشرقية، بينهما حاجز الموت. الشرقية تحت سيطرة "الجيش الحرّ"(معارضىة) والغربية تحت سيطرة النظام. الخبز في الشرقية متاح وأقل سعرًا، وكان الناس تحت الحصار في الغربية والأسعار غالية، يذهبون مرة في الأسبوع أو اليوم من الغربية إلى الشرقية عبر الحاجز، الكثير قُتل أثناء عبوره على يد القنّاص، لذلك سُميّ الحاجز بحاجز الموت. اليوم، مع سيطرة النظام، لم يعد هنالك غربية وشرقية في حلب. وعندما وصلت إلى برلين، كان مشهد تقسيم حلب والناس تركض مع أكياس الخضروات، مسيّطرا على عقلي. في مرة، وقفت عند مكان قريب من حيّ شارلوتنبورغ، عندها شرح لي صديق كيف كان يقف الناس عند الحاجز لتوقيع جوازات سفرهم، جاءني نفس المشهد في حلب، وقلت لنفسي: هل من المعقول أن تعود حلب إلى ما كانت عليه وتصبح مثل برلين، وأن نتذكر هذه الأيام؟".
بالنسبة لأنيس حمدون، وهو مخرج مسرحي قادم من حمص، ومقيم في برلين منذ سنوات، هنالك مقاربة كبيرة بين برلين الشرقية وسوريا. انتقل أنيس إلى برلين بعدما كان يعيش في مدينة تقع في غرب ألمانيا عند حدود هولندا، عن هذا يقول: "أول ما لاحظته هو أن وجود اليمين(الشعبوي) في الغرب قليل جدًا مقارنة في برلين الشرقية، المنطقة التي أسكن بها. كشخص، أحاول الانتباه للشوارع والمباني والبشر. بعض الشوارع تذهلني، أقول لنفسي: أين أنا؟ عند اتحاد العمّال في حمص؟ المباني في الشرقية تشبه نظام البناء البعثي، أشعر بأنني في زيارة عند أولاد عمي، وأشعر أن نظام البعث هو إعادة تقمص لألمانيا الشرقية، يشبهها أكثر مما يشبه الاتحاد السوفيتي ذاته. لكن مع ذلك، يأتيني نوعًا ما الأمل من برلين، وأقول لنفسي: إذا كانت برلين الشرقية والغربية، قد توحدتا، فسيأتي بالضرورة اليوم الذي أستطيع فيه العودة إلى حمص. دمشق لا تعني لي كثيرًا، حمص مدينة أجمل منها".
أقضي معظم حياتي اليومية في المدينة، بالمنطقة الغربية منها، سواء بالسكن أو بالمقاهي والأماكن التي أزورها وأتحرّك بها. وفي زيارتي للمنطقة الشرقية، تكون تلك الأقرب إلى مركز/ منتصف برلين. قبل فترة قصيرة، تلقيت دعوة من أصدقاء لزيارتهم في المنزل، بيتهم يقع في الشق الشرقي للمدينة. لم يكن المشوار إليهم قصيرًا، كما أن الطريق وأشكال الشوارع والبنايات، وحتى شكل الترام، كلها تفاصيل كانت جديدة، كأنني زرت مدينة أخرى تختلف عن التي أعيش بها، شعورٌ لا يختلف كثيرًا عن زياراتي القليلة لأقسى أحياء برلين الغربية. لذلك، يجد الكثير منّا مساحاتهم في المناطق التي تجمع بين الشرقية والغربية، كأننا على خطّ التماس، وهناك نجد ونعيش تجسيد الوحدة بين الناس، وبرلين مليئة بهذه المساحات.
* الموضوع يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.