مفارقات "الإصلاح المحافظ" في "الجمهورية الإسلامية الإيرانية الثالثة"
على الرغم من إجماع غالبية المطلعين على المشهد السياسي الإيراني على أن الجولة الحاسمة للانتخابات الرئاسية الإيرانية بين المرشح المخضرم رافسنجاني والمرشح "المتطرف" احمدي نجاد وضعت الجمهورية الإسلامية أمام مفترق طرق: إما العودة إلى دكتاتورية بدء الثورة أو تبني الاعتدال السياسي استجابة لمتطلبات واقع العمل السياسي، إلا أن فوز المرشح المحافظ محمود أحمدي نجاد في انتخابات الرئاسة الإيرانية وتنصيبه اليوم رئيساً جديداً للجمهورية الإسلامية الإيرانية جاء ليخلط أوراق المحللين والمراقبين من جديد ويثير ردود فعل دولية متنوعة تأرجحت بين الإدانة الأمريكية والترقب الأوروبي وترحيب عدد من الدول العربية.
صورة نمطية لا تعكس الواقع الإيراني
لا شك أن الصورة النمطية عن توجهات الناخبين الإيرانيين التي ساهمت وسائل الإعلام العالمية (والغربية منها على الأخص) في نشرها لا تعكس طبيعة أولويات شرائح واسعة من المجتمع الإيراني. فالملايين من الفقراء والشباب الذين يأملون بتحسين أوضاعهم الاجتماعية انتخبوا احمدي نجاد، ومنحوه نحو سبعة ملايين صوت إضافية مكنته من الفوز على خصمه "المعتدل" رافسنجاني الذي يرتبط إسمه إرتباطاً وثيقاً بإستشراء الفساد والإبتعاد عن "القيم الحقيقة للثورة الإسلامية". كما أن هؤلاء الناخبين لم يعطوا إهتماماً كبيراً بالشعارات التي رفعها الأخير حول قدرته على إيجاد حلول عقلانية وسطية لأزمة الملف النووي، أو لعلاقة إيران مع الولايات المتحدة و العالم الغربي، فالعامل الأهم في تحقيق فوز احمدي نجاد كان تبنيه لدور "روبين هود" الإيراني المدافع عن حقوق البسطاء، وهو ما تم التعبير عنه بصورة واضحة في الشعارات التي رفعها والتي شدد فيها على أن "تحسين أحوال الفقراء وتوزيع الثروة النفطية بشكل عادل ومحاربة الفساد" سيكون على قمة أولويات حكومته المقبلة.
الاستحقاق النووي الإيراني والمجتمع الدولي
إتجاه إيران إلى استئناف بعض الأنشطة المتعلقة بالوقود النووي اعتباراً من يوم الاثنين السابق يعبر عن ثقة إيرانية جديدة من نوعها بالنفس وبقدرتها على التعامل مع الضغط الكبير الذي يمارسه المجتمع الدولي عليها لوقف عمل البرنامج النووي الإيراني خشية تطوير الجمهورية الإسلامية لأسلحة الدمار الشامل. كما أن رفض الحكومة الإيرانية للتحذيرات التي وجهها لها الاوروبيون من مغبة معاودة بعض النشاطات النووية الحساسة وتأكيدها على عدم تخليها عن"حقوقها المشروعة" وأن "زمن التهديد والترهيب قد ولى" يعود إلى ثقتها بوجود إجماع وطني لا لبس فيه لدى كل قوى الطيف السياسي الإيراني على حق إيران المشروع في امتلاك التقنية النووية. وفي هذا الصدد يعتبر الايرانيون أن الاوروبيين تعهدوا في اتفاق باريس بالاعتراف بحق إيران في ممارسة نشاطات تحويل اليورانيوم وتخصيبه. كما يعتقدون أن المفاوضات التي عقدوها مع الأوروبيين طوال ثمانية اشهر قد اسفرت "عن القليل (..) ان لم يكن لا شيء"، على حد تعبير المتحدث بإسم وزارة الخارجية الإيرانية.
إضفاء الشرعية على كيان الجمهورية الإسلامية
مشاركة حوالي 30 مليون ناخب في الدورة الأولى لانتخابات الرئاسة الإيرانية أضفت شرعية جديدة على النظام السياسي الفريد من نوعه في إيران كونه يحتوي على آليات عمل مستبقة من الأنظمة الجمهورية، علاوة على مؤسسات دينية قائمة على نظرية "ولاية الفقيه" التي قام مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني بـ"إبتكارها". هذه القاعدة الشعبية الجديدة لبنية الجمهورية الإسلامية ستهب الرئيس الجديد قوة معنوية في مواجهة انتقادات الغرب الموجهة له، كما أنها ستساهم في إرساء قواعد "الجمهورية الإسلامية الثالثة" التي يقودها جيل الثورة الجديد الذي حارب ضد عراق صدام. وعلى الرغم من التغيير المتوقع في لغة التخاطب الإيرانية مع المفاوضين الأوروبيين، فان احمدي نجاد لن يسعى إلى تصعيد مفتوح في أزمة الملف النووي، لأن التحدي الداخلي هو التحدي الأكبر بالنسبة لحكومته على أرض الواقع، فعليه العمل على التقريب من توجهات القوي السياسية الإيرانية من أجل تحقيق مصالحة وطنية بين الإصلاحيين والمحافظين. كما أن المفارقة الأكبر تكمن في أن وفائه لوعوده الإنتخابية بإنعاش الاقتصاد والتوصل إلى حل سلمي للملف النووي وتكريس الحريات الفردية وإخراج إيران من عزلتها الدولية يعتمد على قدرته على الموازنة بين الوفاء لقيم الثورة و ضرورة "التنمية الاجتماعية والإقتصادية" من ناحية، وعلى حصول إيران على التقنية الغربية الضرورية لتحديث البينة التحتية للاقتصاد الإيراني وقدرته التنافسية. ومن هذا المنظور فإن حل هذه المُعضلة يتطلب "إصلاحاً محافظاً" لهيكلة الدستور وآلية إتخاذ القرار السياسي الإيراني من داخل المنظومة الدستورية الإيرانية للجمهورية الإسلامية الثالثة!
لؤي المدهون