ثلاثة عقود على الوحدة الألمانية.. فرص ضائعة وأزمات جديدة!
٣٠ سبتمبر ٢٠٢٠أفضل مكان للشعور بنبض العلاقات الدولية في ألمانيا هو مؤتمر ميونيخ للأمن، حيث يلاحظ المرء شيئين في السنوات الأخيرة. فرغم أن السياسيين رفيعي المستوى من الشرق والشرق الأدنى والغرب يتبادلون الأماكن في المنابر (الدولية)، لكن يبدو أنهم يستمعون لبعضهم البعض بشكل أقل دائماً، ناهيك عن عدم استجابتهم لبعضهم البعض. ما هو مؤكد أن العلاقات بين أوروبا وأمريكا مثقلة جداً، كما أن علاقات الغرب بروسيا متوترة ومتسمة بالانعدام الشديد للثقة، أما العلاقة بين الولايات المتحدة والصين فتوصف بأنها حرب باردة جديدة.
وما قد يدعو للسخرية في هذا الصدد ما قاله المفكر السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما في مؤتمر ميونيخ للأمن في شباط/فبراير الماضي. ففي عام 1989، وبالنظر إلى الاضطرابات في وسط وشرق أوروبا، أعلن فوكوياما الانتصار النهائي للديمقراطية الليبرالية، وبذلك "نهاية التاريخ"، كما سُمّي كتابه الذي يستشهد به كثيراً. اعترف فوكوياما في مؤتمر ميونيخ بصراحة وبعد مرور ثلاثة عقود أن تنبؤاته لم تتحقق كلها.
تُظهر نظرة سريعة على الإنفاق العالمي على التسلح أن العالم لايزال بعيداً عن "نهاية التاريخ". وبحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، ارتفع الإنفاق العالمي على التسلح بسرعة أكبر في عام 2019 مقارنة بالسنوات العشر السابقة. وتأتي الولايات المتحدة، كما في السابق، في المقدمة، تليها الصين، منافستها الجيوستراتيجية الجديدة. وتحتل روسيا المرتبة الرابعة بفارق كبير عنهما.
تفاؤل كبير
بالنظر إلى هذه الأرقام، يصعب على المرء أن يتخيل "الشعور الكبير بالتفاؤل" الذي يتحدث عنه المؤرخ كونراد جاراوش عندما يستذكر النهاية -المؤقتة- للمواجهة بين المعسكرين (الحرب الباردة) قبل 30 عاماً. يقول المدير السابق لمركز أبحاث التاريخ المعاصر في بوتسدام لـDW: "كان المستقبل واعدا. وكان يبدو أن هناك فرصاً إيجابية كبيرة سانحة في ألمانيا الموحدة، وفي البلدان المجاورة أيضاً"، ويضيف: "وبالفعل تحقق جزء منها: من خلال دمقرطة أوروبا الشرقية، وفي التنمية الاقتصادية".
كانت الأجواء مليئة بالوعود والآمال، إذ تمت صياغة خطط جريئة في المؤتمرات. ووضع الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف رؤية "منزل أوروبي مشترك" يتمتع فيه جميع السكان بنفس الأمان. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1990، وقّع 34 رئيس دولة على ميثاق باريس في قمة خاصة لمؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا. وتم الاحتفال بإعلان إنهاء تقسيم أوروبا.
"تغيير خط التقسيم عوضاً عن تجاوز الانقسام"
كان هورست تيلتشيك في باريس في ذلك الوقت، كمستشار مقرب من المستشار الألماني الراحل هيلموت كول. في حديث مع DW، يتذكر تيلتشيك اللحظة التي أعقبت توقيع الميثاق ويقول: "وقف غورباتشوف وقال: مهمتنا هي الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية ومن الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق"، ويضيف: "هذه المبادئ منصوص عليها في الميثاق".
لم يبق سوى القليل من روح التغيير هذه. قبل خمس سنوات، كتب وزير الخارجية الألماني الراحل، هانز-ديتريش غينشر، الذي يعتبر مهندس الوحدة، تعليقاً لـDW بمناسبة الذكرى السنوية الخامسة والعشرين للوحدة، قال فيه: "يبدو أن البعض لا يريد تجاوز الانقسام، بل إزاحة الخط الفاصل من وسط أوروبا باتجاه الشرق".
توجه الناتو إلى الشرق
لم يكن لأي قرار سياسي أن يؤدي إلى توتر العلاقات الغربية مع روسيا مثل قرار توسع حلف شمال الأطلسي "الناتو" شرقاً، بدءاً من أواخر التسعينات. خلال السعي السياسي لتوفير شروط الوحدة، اتفق كل من كول وغورباتشوف صراحة على أنه وفي حالة إعادة التوحيد، يمكن لألمانيا أن تظل عضواً في الناتو كدولة ذات سيادة، لكن بدون نشر قوات الناتو على أراضي "جمهورية ألمانيا الديمقراطية"، الشرقية سابقا.
يتذكر تيلتشيك، الرئيس السابق لمؤتمر ميونيخ، أن كول وغورباتشوف لم يناقشا أي توسع إضافي محتمل في الشرق، لأنه "في صيف عام 1990، لم يكن أحد يعتقد أنه سيتم حلّ حلف وارسو بعد تسعة أشهر وحل الاتحاد السوفييتي بعد عام ونصف".
يتذكر المؤرخون الوعود التي قطعها الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر لبناء هيكل أمني حصري لعموم أوروبا بروح من الشراكة. كان من الواضح للعديد من السياسيين الأمريكيين أيضاً أن توسع التحالف العسكري الغربي باتجاه الشرق في روسيا يجب أن يُنظر إليه على أنه "خيانة" لروح التعاون في عام 1990.
ففي رسالة مفتوحة في حزيران/يونيو 1997، حذر أكثر من 40 شخصية، بينهم أعضاء سابقون في مجلس الشيوخ وأعضاء في الحكومة وسفراء وخبراء نزع السلاح وخبراء عسكريون، الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، من أن توسع الناتو شرقاً من شأنه أن يقوي المعارضة غير الديمقراطية ويضعف قوى الإصلاح.
بوتين في ميونيخ
في خطاب له في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، وضح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الموقف الروسي، متحدثاً عن توسع الناتو باتجاه الشرق والتدخلات العسكرية الأمريكية الفردية دون تفويض من مجلس الأمن، كما حصل في العراق، بالإضافة إلى تطوير نظام دفاع صاروخي في أوروبا الشرقية ومسائل كثيرة أخرى. ويرى تيلتشيك أن خطاب بوتين كان "تلخيصاً لكل المشاكل التي واجهها مع الدول الغربية ومع الناتو".
ويضيف تيلتشيك، الذي كان رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن حتى عام 2007: "كان على الزعماء الأوروبيين والناتو والولايات المتحدة أن يدعوا بوتين ويقولوا له: دعونا نجلس جميعاً ونناقش قائمة مخاوفك". لكن لم يحدث شيء من هذا القبيل. يتذكر تيلتشيك أن وزير الخارجية الألماني آنذاك، فرانك فالتر شتاينماير (الرئيس الألماني الحالي) لم يذكر خطاب بوتين في كلمته في اليوم التالي. ويتابع تيلتشيك: "أعتقد أن هذه كانت خيبة أمل بوتين العميقة الأولى، وهي أن الجميع كان هناك لكن أحداً لم يستجب".
التنين يستيقظ
ربما كانت الدول الغربية عموماً والولايات المتحدة خصوصاً قد أصبحت متعجرفة بزيادة الانطباع بأنها فازت في سباق الأنظمة. يوضح المؤرخ جاراوش: "لفترة معينة حول العام 2000، كانت الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة المتبقية"، ويضيف: "كان الروس يواجهون الصعوبات الخاصة بهم وبدا أن الشيوعية انهزمت". لكن تحديث الشكل الآسيوي للشيوعية لم يكن يؤخذ بالحسبان، كما يقول جاراوش بالإشارة إلى الصين.
كان يُنظر إلى الصين لفترة طويلة على أنها في المقام الأول سوق ضخمة وطاولة عمل للغرب. وخلال سعي الصين للحاق بالركب الاقتصادي للدول المتقدمة على مدار السنوات الـ30 الماضية، حقق كثيرون أرباحاً جيدة، ومنها الشركات الألمانية. وكان الأساس المنطقي هو أنه وبمجرد تطور الطبقات الوسطى في الصين، فإنها ستطالب في مرحلة ما بسيادة القانون والديمقراطية وتحصل عليها.
لكن اتّضح أن الأمر مختلف. فمنذ أن أصبح شي جين بينغ رئيساً للدولة وزعيماً للحزب، أصبحت الصين تتجه نحو القمع الداخلي، كما أصبحت أكثر عدوانية في سياستها الخارجية. ويكفي ذكر كلمات مثل، إقليم شينجيانغ (حيث يتم قمع أقلية الأيغور) أو (مظاهرات) هونغ كونغ أو بحر الصين الجنوبي أو تايوان لتأكيد ذلك.
الخبير والمحلل السياسي الألماني إيبرهارد ساندشنايدر، يحلل سبب ازدياد نفوذ الصين ويقول: "إذا كان لدى بلد يبلغ عدد سكانه 1.4 مليار نسمة متوسط نمو اقتصادي مزدوج الرقم على مدى 38 عاماً، فسيكون هذا البلد في مرحلة ما قادراً على ترجمة أدائه الاقتصادي إلى نفوذ سياسي وفي النهاية إلى قوة عسكرية أيضاً".
وضع شي جين بينغ أهدافاً طموحة لبلاده. فبحلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 2049، يجب أن تكون الصين، بحسب جين بينغ، قوة اشتراكية ناضجة وحديثة وتتمتع بالقدرة على وضع القواعد وتشكيلها وأن تصبح في مقدمة دول العالم اقتصادياً وتكنولوجياً. وبحسب الخبير في شؤون الصين سيباستيان هايلمان، فإن مطالب القيادة الصينية "واضحة" وهي أن الصين تريد العودة إلى مركز النظام العالمي، ويضيف: "وهذا بالطبع يتعارض مع القوة المهيمنة الحالية وهي الولايات المتحدة".
تقسيم جديد للعالم
يعتبر هايلمان أن تقسيم العالم إلى "نصفين كرويين" أمر ممكن. ولا يفكر الخبير في شؤون الصين في قواعد الهيمنة فحسب، بل في التكنولوجيا أيضاً، ويقول: "علينا أن نتوقع أنه سيكون لدينا في المستقبل تقنية بمعايير مختلفة تماماً وممارسات مختلفة تماماً في التنفيذ. أنا أتحدث عن مجالات تقنية حيث تهيمن معايير وشركات وقواعد مختلفة".
الفصل بين العالمين الغربي والصيني قد بدأ بالفعل، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب أعلن فصل اقتصاد الدولتين. ويعتقد ساندشنايدر أن محاولة فصل أكبر اقتصادين في العالم ستؤدي إلى اضطرابات كبيرة، ويرى في هذه العملية نهاية العولمة كما نعرفها.
إن الكيفية التي سيتم بها حل الصراع بين القوة الصاعدة والقوة الرائدة الحالية في نهاية المطاف مفتوحة. ويبدو أن حرباً باردة جديدة هي أحد السيناريوهات الأكثر ترجيحا.
بالمناسبة، في كلمة فرانسيس فوكوياما في مؤتمر ميونيخ للأمن في شباط/فبراير، كان البديل الوحيد الممكن للديمقراطية الليبرالية هو الصين. لكن المفكر السياسي الأمريكي أشار إلى أن "الناس لا يحبون العيش في دول استبدادية"، وأضاف: إذا أصبحت الصين بالفعل أغنى من الولايات المتحدة خلال 20 عاماً وبقيت مستقرة، فإنني سأعترف أنني كنت مخطئًا".
ماتياس فون هاين/م.ع.ح