السليمانية... فصول "ربيعية" من التعايش السلمي بين القوميات
١٣ مايو ٢٠١٣على خشبة صغيرة في إحدى المطاعم الفاخرة بمدينة السليمانية صدحت حنجرته الطرية مع أنغام آلة العود الشرقي التي مزجها بأسلوب شيق عبر عن مدى الترابط الثقافي واللغوي في المدينة. فلحن أغنيته العربي وكلماتها الكردية نالت إعجاب مرتادي المطعم. أصوات هؤلاء ارتفعت وهي تكيل المديح والثناء له ولأدائه بمختلف اللغات كعبارات "دست خوش" (سلمت يداك) بالعربي، و "جوانه" (جميل)، و"زور باشي" (جيد جداً).
قصة لجوء عبد العزيز درويش، عازف العود ومعلمه إلى الإقليم الكردي جاءت مشابهة لآلاف القصص التي طلبت اللجوء في هذا الموطن، بحثاً عن الأمان الذي فقدوه في مدنهم بعد اجتياح الدولي للعراق في عام 2003، إذ بدأ بعد التاريخ المذكور ظاهرة الاستهداف المباشر للكثير من الكفاءات العلمية والثقافية في البلاد، مما فتح باب الهجرة على مصراعيه أمام هؤلاء.
سهولة التأقلم
ويقول درويش، الذي كان قد اختتم لتوه إحياء حفل صغير أنهاه بأغنية "لو غيمت دنياك" للمطرب السبعيني العراقي قحطان العطار، والذي رد على جمهوره التحية الذين جاؤوا للاستمتاع بإلحانهِ وأغانيه السبعينية باللغتين العربية والكردية: "أفضل البقاء في السليمانية... إذ أشعر بأني قد أصبحت جزءاً منها".
ويضيف درويش في حديثه مع DW عربية: "عند مجيئي إلى السليمانية لم أواجه أي مشكلة في التعايش مع المجتمع الكردي الذي يعاملني بكل احترام". ويدير درويش الآن مدرسة لتعليم العزف على آلة العود والبيانو في المدينة التي لجأ إليها في عام 2006، بعد أن قرر أن يستقر فيها بشكل نهائي.
التعايش السلمي في إقليم كردستان العراق ولد بدوره استقراراً اجتماعياً في المنطقة التي يسكنها الكرد، مع وجود أقليات أخرى كالتركمان والكلدانيين والآشوريين والعرب وغيرهم الذين نزحوا من الجنوب والوسط بسبب أعمال العنف في العراق بعد عام 2003.
تخوف من "الوباء الفكري"
أما المخرج السينمائي عباس النوري فقد غادر العاصمة بغداد منذ اندلاع أعمال العنف الطائفي في مدينته أواخر عام 2006، عباس لم يتلق أي تهديد يجبره على مغادر منزله، لكنه قرر الفرار بأبنائه الثلاثة خوفاً من تلوث عقولهم وطريقة تفكيرهم بـ "الوباء الفكري والطائفي"، على حد وصفه. ويقول النوري، الذي تحظى أعماله السينمائية اليوم باهتمام وتقدير كبيرين وخاصة أثناء مشاركته بالمهرجانات المتنوعة، في حواره مع DW عربية إن "خوفي على سلامة عقول أطفالي من النشوء في بيئة ملوثة بالأفكار المذهبية والطائفية والعنصرية من أهم الأسباب التي دفعتي إلى الهجرة إلى كردستان العراق... رغم ظروفي الاقتصادية الصعبة التي كنت أواجهها عند وصولي إلى المدينة واختلاف عامل اللغة".
ويضيف النوري بالقول: "استطعنا أنا وعائلتي التأقلم والانخراط في المجتمع بوقت قياسي بسبب روح التعايش السلمي الذي لمسناه هنا، حتى بدأنا ننشأ علاقاتنا الاجتماعية الخاصة. وبدأت أشعر بأني من سكان المدينة الأصليين وليس مقيما فيها"، يؤكد نوري الذي لا يرغب مطلقاً بالعودة إلى بغداد حتى لو تحسن وضعها الأمني.
ويساهم الوضع الأمني المستقر في كردستان في انتعاش الوضع الاقتصادي في الإقليم، الذي يشهد نهضة عمرانية واسعة تتمثل في بناء مئات الفنادق والأسواق والعمارات الشاهقة فضلاً عن عشرات المجمعات السكنية الراقية. ويرجع الكثيرون سبب النجاح الاقتصادي إلى الاستقرار الذي تتمتع به المنطقة منذ عام 1991.
اغتيال الكفاءات
"لا شيء أفضل من أن تنعم بالأمن والاستقرار"، بهذه الكلمات البسيطة بدأ الدكتور سعد عبد الأمير الفحل، مدير شعبة السونار في مستشفى الطوارئ بمدينة السليمانية حديثة مع DW عربية. الفحل يسرد تفاصيل قصة رحيله وعائلته من العاصمة بغداد للاستقرار في مدينة السليمانية على خلفية موجة استهداف الكفاءات العلمية التي بدأت تأخذ نطاقاً واسعاً بعد عام 2003 "بعد أن فقدت العديد من زملائي في المهنة من الأطباء قررت الرحيل وعائلتي إلى السليمانية بحثاً عن الأمان".
وبينما ينشغل بالحديث مع مراجعيه في عيادته الحكومية يضيف الفحل، الذي يسكن السليمانية منذ بداية 2006، أنه لا يشعر بالغربة مطلقاً في مدينته الجديدة، "وتنوعها الثقافي واللغوي يدفعني إلى البقاء الدائم فيها".
خطوة إيجابية لجيل مسامح؟
من جهته يعتبر الصحفي الكردي كوران قادر حمه أن الطبقة المثقفة من القومية العربية والتي تسكن مدينة السليمانية، قد شجعت بشكل أو بآخر على التنوع الثقافي واللغوي في مدينته، معتبراً هذا التنوع "خطوة إيجابية نحو خلق جيل واع ومتسامح يؤمن بثقافة الحوار وتقبل الآخر". ويقول حمه، الذي يعمل مترجماً للغة العربية في موقع "كركوك ناو"، في حوار مع DW عربية إن "ترجمة العديد من المؤلفات العربية الأدبية منها والثقافية والصحفية، إلى لغتي الأم قد ساهم في ازدهار الثقافة الكردية ليس في السليمانية فحسب وإنما على مستوى الإقليم أيضاً".
ويشير حمه إلى أن تذبذب الوضعين الأمني والسياسي في أغلب المدن العراقية جعل الإقليم "يستفاد من خبراتهم وكفاءاتهم" في إشارة إلى الاستفادة من تواجد العديد من العقول العراقية في إقليم كردستان العراق، الذين فضلوا العمل فيه والتنعم بأمنه مع عائلاتهم بعيداً عن الانفجارات التي تحصد العشرات من الأرواح في كل يوم.
وشهد إقليم كردستان العراق، وخاصة بعد عام 2006 و2007، توافد أعداد كبيرة من الأطباء والمهندسين والمثقفين والأدباء والفنانين والصحفيين مع أسرهم، بحثاً عن ملاذ آمن يحميهم من أعمال العنف والقتل العشوائي الذي ضرب العراق آنذاك. "تربطنا اليوم علاقات اجتماعية وروابط أسرية مع العديد من هذه العائلات"، يؤكد حمه.