باول تسيلان يحفر قبرا في الهواء
٥ أغسطس ٢٠٠٧"يتكلم الحقيقة، من يتكلم الظل". باول تسيلان لا يعيد كتابة اللغة الألمانية من جديد، بل يقلب نظام الحقيقة رأسا على عقب. الحقيقة أم العقل الذي نعته ميشيل فوكو بالجلاد. لم تكن حياة باول تسيلان إلا رحلة بحث عن كلمات تقول كارثة معتقل آوشفيتس النازي. فترحيله إلى معسكر للاعتقال ومقتل والديه على يد النازيين، ومأساة الملايين من ضحايا القوميين الاشتراكيين كانت أصل قصائده ومآلها. هذه القصائد التي اختارت قاموسا جديدا، وصلت أحيانا إلى حد اجتراح كلمات جديدة، وتجربة إمكانيات دلالية غير معتادة في اللغة الألمانية. الألمانية لغة الجلاد، ولكنها اللغة التي اختارها تسيلان، لفضح هذا الجلاد، "كتابة من داخل الموت" من داخل لغة الجلاد، وصف جورج ستاينر شعرية سيلان، كتابة ضد الكتابة.
محطات في حياة شاعر
ولد بول تسيلان في مدينة تسيرنوفيتس، التي أصبحت جزءا من رومانيا بعد سنة 1918 عقب انهيار الإمبراطورية النمساوية ـ الهنغارية، وهى مدينة تميزت بتعددها الثقافي والديني والعرقي. وكان اليهود يمثلون نصف ساكنتها، والنصف الثاني من الرومانيين والأوكرانيين. وفي هذه المدينة تعلم العبرية والألمانية، ليقضي سنة بين 1938 و1939 في فرنسا، من أجل دراسة الطب.
وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية واحتلال بيكوفين من طرف السوفيات، يقبل تسيلان على تعلم الإنجليزية، وقد ساعدته معارفه اللغوية على القيام بترجمات متعددة، إذ سيترجم إلى الألمانية أعمال شكسبير وبيسوا وبودلير ورامبو ورونيه شار وأعمال الشاعر الإيطالي الكبير أنغاريتي. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، واحتل السوفيات بيكوفين، اختار سيلان اللغة الألمانية ومعها المنفى، راحلا إلى فيينا ومنها إلى باريس التي سيعيش فيها حتى انتحاره سنة 1970، وسيعمل فيها كمترجم وأستاذ للألمانية.
الهولوكست وتجربة تسيلان الشعرية
"حليب الصبح الأسود نشربه مساء
نشربه ظهرا وصباحا ونشربه ليلا
نشرب ونشرب
نحفر قبرا في الهواء..."
قصيدة Todesfuge "كوة موت" لباول تسيلان، والتي تعتبر من القصائد السهلة مقارنة ببقية قصائده غامضة الجماليات، هي برأي النقاد أبلغ ما كتب عن مأساة الهولوكست وأشهر قصائد تسيلان وهي التي ساهمت في ربط تسيلان بالتراجيديا اليهودية في القرن العشرين، إذ كما كتب الناقد الأدبي الألماني الكبير بيتر سوندي، فإن آوشفيتس "ليست فقط غاية شعر تسيلان ولكن أيضا شرط وجوده".
ولهذا فمن الخطأ اعتبار شعر تسيلان "شعرا يهوديا"، فيهوديته ليست أكثر من صدع في التاريخ، أو من منفى، إنه أنه لا يرتبط بتقليد ديني أو هوية عرقية، ولكن يهوديته مرتبطة أكثر بهول الهولوكست، بتجربة الموت المنهجي، وبخيار لغوي هو المنفى في ذاته.
في الأول من مايو سنة 1970 طافت على سطح نهر السين في باريس جثة تبين بعيد ذلك بأنها للشاعر باول تسيلان، الذي اختار المضي بعيدا في منفاه، أبعد حتى من الموت.